محمد الحافظ ولد أحمدو: شاعر الحداثة في موريتانيا | البشام الإخباري

  

   

محمد الحافظ ولد أحمدو: شاعر الحداثة في موريتانيا

ديوان ولد أحمدو هذا فاز بجائزة شنقيط ودرع رئيس الجمهورية.

قذفت بادية الجنوب الموريتاني به إلى نواكشوط مطلع سبعينات القرن الماضي. فجاور أمواج المحيط الأطلسي ليسمعها أمواج شعر هادر ينتجه وجدان الشاعر محمد الحافظ ولد أحمدو. "كانت المعلقات قبله سبعا، فصارت عشرات" كما يقول أحدهم. هول القائل:
كأنَّكَ من بطْحاء مكة ناظِر بمجهر غيب الروح ما خبَّأ العمر
وطئت أقدام الشاعر ولد أحمدو رمل العاصمة نواكشوط الحديثة عهد بالاستقلال آنذاك وهو يخطو إلى الذهنية الموريتانية ليتبوأ فيها مكان المشاهير والنجوم.
فيض عبقريته وطفوق صوفيته ونهمه بالمطالعة اختطت له نمطا شعريا وهاجا.
والجديد في تسليطة الضوء هذه على ديوانه "عودة الهديل" أن ولد أحمدو رمز من رموز الحداثة في الشعر الموريتاني على عكس الانطباع السائد عنه بل وحتى الذي قد يراه هو عن نفسه.
فإذا كان صاحبنا امتدادا في لغته الشعرية للشاعر محمد ولد الطلبة - الذي يوصف أنه "شاعر جاهلي أخره الله إلى القرن الثالث عشر الهجري" - ، فإنه ليس امتدادا لمدرسة الشعر الجاهلي في رؤاها ونسجها الخيالي التصويري بقدر ما هو متشبث بأهداب مفردات اللغة الأصيلة العتيقة بل والموغلة في القاموسية أحيانا كثيرة.
هو يقول:
من شاطئ السدرة القدسية النغم أرسيت من وسوساتي زورق الحلم
وأُشرِب القلب من مسحور فتنته غضارة القمر المعشوشب الكلم
أخيط جرحي على إكسير أحرفها فيورق الصخر من سلسالها الشبم
خطوطك البلسم الشافي أمررها بالصدر مني فيشفي وجهها سقمي

في هذه المقطوعة تتجلى ملامح شعر صاحب الديوان على حقيقتها الحقة مختصرة في ثلاثة
الملمح الأول: خيال مجنح يقود إلى تصوير جديد في مسيرة الشعر العربي التقليدي كقوله: "أرسيت من وسوساتي زورق الحلم" فصورته "زورق الحلم" إضافة فنية بالغة إلى خط الشنفرى وزهير بن أبي سلمى وتجديد في تعابير القصيدة التقليدية. مثلها صورة "القمر المعشوشب"
الملمح الثاني: لغة قاموسية حجزت مقاعدها في القطعة مثل "غضارة" والغضارة: الطين اللازب ومثل "الشبم" الذي هو: البرد
كما تتبرج في الأبيات مفردات من اللغة حداثية مثل "الجرح" "إكسير أحرفها"

تحت قبة "عودة الهديل"
قبل أن نطرق باب الديوان للدخول إلى عالمه، نثير أنه يشفع لنا حين نصف ولد أحمدو شاعرا حداثيا ذالك الكم الهائل من عناوين قصائده التي تتمرد – ولو من دون شعورها بذلك – على المدرسة الاكلاسيكية فكل عناوينه هي طابع تجديدي على شعره.
لننظر هذه العناوين:
" في حانة ابن الفارض الصورية" "نهر الأناشيد" وفي هذا العنوان ابتكار صارخ.
"حج مناسك عذرة في عينيها" وهذا أصرَخ!
"مقاطع من قصيدة قالت وقلت" "الكون سبورة والشمش طبشورة"
عند هذا العنوان الأخير والطريف "الكون سبورة والشمش طبشوره" يصل الشاعر إلى قمة القدرة على التصرف بالمفردات أنى شاء حين يطل من فوق قمة الشعر بهذا العنوان الذي يذكِّر بمقولة أحد النقاد بأن الشاعر هو "الغلام الوحيد الذي يسمح له أن يلعب بالمفردات" وشاعرنا شيخ في الأدب والشعر!
نذكر أن العناوين هذه المؤكدة لرؤيتنا حول الشاعر جاءت متتابعة تتابع قصائدها في الديوان بدء من القصيدة الأولى في الديوان إلى التي انتهينا عند عنوانها من دون أن نأخذ عناوين من هناك وهناك بصفة انتقائية، لا! العناوين أخذناها بشكل عادي حينما قرأنا القصيدة الأولى والتي تليها والتي تلي تلك بشكل تراتبي وهكذا لنثبت من دون تعسف أن ما نقصده طابع جذري في الديوان، فعناوين قصائده تثبت رؤية "الأخبار" حول حداثية شعر محمد الحافظ ولد أحمدو.

خاصية تنضح
ظهر صاحب الديوان بخاصية تدعوه أن يناغي من حين لآخر علما من أعلام التراث الإسلامي في ديوانه، أكد لقرائه تلك الخاصية عندما استفتح الديوان بقصيدة تنزع إلى ابن الفارض الذي هو "من أشعر شعراء المتصوفة"
يقول ولد أحمدو في مطلع قصيدة " في حانة ابن الفارض الصورية"
هل باب خدرك للعشاق مفتوح يا ربة الخدر كم تهفو لك الروح
يا معرج الروح في مرقى قداستها إذ هيكل الأرض إحسان وتبريح
يا جوهرا هو للممتاز من مثل في عالم الناس تكميل وتنقيح
من سكرة الورد من نور الضحى غردا بما به شكر الغيث الأباطيح
من نفخ شبابة الراعي مساء ندى غمامه فوق بسط الأرض مطروح
من رغوة القمر الفضي ثاغية لها على شعر الواحات تسريح
يبرعم الضوء من بلور سندسه هذي الرؤى فالهوى طعن وتذبيح
من هذه المزق الألفاف من قزح وشى الفضاء بها المزن الدواليح
يا لها من صور رائعة موغلة في الحداثة نثرها الشاعر على بساط هذا النص المتلألئ مثل قوله "من سكرة الورد" ومثل بيته
"من نفخ شبابة الراعي مساء ندى غمامة فوق بسط الأرض مطروح" هذا البيت فيه تصوير بديع، وفيه ذكر كلمة "الشبابة" هذه التي تثير جدلا عند البعض عندما يسمع الشاعر محمد ولد الطالب يكثر من ذكرها في شعره ويبدو أنها من مفردات صاحبنا ولد أحمدو التي يستخدم وهو أستاذ لأجيال الشباب الشعراء.
أيضا يندهش القارئ عندما يقرأ بيتيه:
" يبرعم الضوء من بلور سندسه هذي الرؤى فالهوى طعن وتذبيح"
"من رغوة القمر الفضي ثاغية لها على شعر الواحات تسريح"
هنا انحشدت عتاق الصور ف"يبرعم الضوء" في قمة الجمال وبعدها وردت كلمة "الرؤى" التي كان كثيرا ما يستخدمها الشعراء الحداثيون بإفراط في السنوات القليلة الماضية
هي وكلمة المدى ويبدو الاتجاه الشعري الآن قد مل من هاتين العبارتين وتجاوزهما في عالم اللغة الواسع.
كما أن "رغوة القمر" على قدر من إعمال الخيال وقد استُحسن للراحل درويش عندما قال في واحدة من آخر قصائده " والوقت رمل ورغوة صابونة" قصيدة درويش تلك
بعنوان "سيناريو جاهز"
بطاقة دعوة لأبي حيان:
قصيدة لا تُجهل من أشهر شعر ولد أحمدو وأقربه إلى روحه، أزال كل الحجب فيها وقابل أبا حيان التوحيدي البغدادي الذي امتاز بجمال الأسلوب يدعوه ويناشده بالعودة إلى هذا الزمان يقول له:
أقبل على الرحب عم يا شاحط الدار مدمدما فوق ريح ذات إعصار
إني أحسك هفهافا على رئتي بردا من الثلج أو لفحا من النار
اقرأ بربك ما دونت من سدم يطفو على الشمس عصرا بعد أعصار
اقرأ كتابك للدنيا فإن به تلملم القهر في عيني سنمار
وفي هذه الصورة " تلَمْلَم القهر في عينيْ سنمار" تصوير فني راقي وشعرية والهة.
كما أن في قوله "يطفو على الشمس" بلاغة حارقة.

مع طــارق بن زياد:
خص الفاتح طارق بن زياد بقصيدة يُشبِه وقع رويها حركة موج شاطئ المحيط في امتداداه يقول فيها:
سلوا طارقا عن حكمة البحر إنه تعلم منه البحر أن يزبد البحر!
فلو أن بعد البحر بحرا لخضته ولو أن بعد القفر قفرا دنا القفر
وأنت كما أنت احتداما ومرة وداخِلُك الدنيا يثوِّرها الموْر ( إن الجبروت الشعرية والخيال المجلى حاضران في الشطر الثاني من هذا البيت)
وتذبل موجات ويخفُت جَرْسُها ويهوي إلى أخرى بثانية حدر ( جميل أن يكون للموج جرس)
وفي داخل البحر الذي نحن بعضه حضارات أقوام تضمنها قبر
كأنك من بطحاء مكة ناظر بمجهر غيب الروح ما خبأ العمر ( هذا البيت يدهش جمالا)

من خصائص الديوان أيضا:

مما كان خاصية في شعره القافية المنتهية بمد يفضي لسكون مثل قافية قصيدته "لحن الحنين" مطلعها: للمدى الممتد من عطر السنينْ كأزاهير حقول الياسمينْ" وهي قصيدة من بحر الرمل تعتمد تفعلة "فاعلاتن"
وكذلك قافية قصيدته "عودة الهديل" التي يقول فيها
هتفت تغنيه مطوقة الحمامْ ذكرى شباب كان مخضل الثمامْ
والريح تضرم في الرمال فحيحها والليل يأكل أدردا شجر الظلامْ
وتداخلت في ذهنها مزق الرؤى كانت رقوبا ثكلها قبل التمامْ
وعلى السكون الغير مسبوق بأي مد أنشأ قوافي مثل قافية "الشمس ياقوتة في تاج منتصر" :
كمثل أجنحة الأحلام رفافه هبت نسائم غيث اليمن هفافه
قد أيقظت من حقول الروح غافيها تعيد كالسحر للإحساس إرهافه
وكذلك نفس الشيء في قصيدة "شنقيط أغنية التاريخ" وفي قصيدة "معجزة الخليج الخارقة" التي يقول فيها
هبت كأحلام العذارى الوامقه*** فجرا عليك وطيف رؤيا صادقة
من ورق شطآن الخليج فلألأت*** ماضي كنوز الذكريات الشانقه
فتموج البحر المحيط ظعائنا **** أحداجها قبب الرؤى متساوقه
فمواكب الأمواه شم ملاحم**** يخرجن أبكار الإبا وعواتقه
إن ظاهرة الوقوف على السكون قد يجد فيها النقاد المختصون في علم اللسانيات معنى يصور حالة نفس الشاعر الذي كأنه يشهق حتى يدهش ولهذا بعد بلاغي. فهي تحمل دلالة معبرة عن لحظة الإبداع التي جعل الشاعر فيها هذا الشهيق ومد النفس إلى أن ينقطع قافية قصيده كأنه لا يريد أن يقف فنفَسه يجري في الفضاء إلى ما لا نهاية كشعره الذي يطير في الآفاق، أو كأنه لم يجد الصوت الذي يريد أن ينتهي عليه فترك الباب مفتوحا مع هذا السكون ( فقط مثل هذه الملاحظات نشير إلى أنه يجدر تسليط الضوء عليها من
قبل المختصين، ويحتاج الشعر الموريتاني إلى دراسات نقدية عامة تفسح لقراءة مثل هذه الظواهر وغيرها)

المضامين الداخلية

الشعر في هذا الديوان الذي يتكون من 29 قصيدة "إلهام وفن" وهي الجملة التي عرف بها جبران الشعر. فهو في هذا الديوان تهويمات لا ترتبط غالبا بالمناسبات تبعدها عرامة اللغة وفحولتها إضافة إلى تحليقها هي عن المباشرة الدلالية.
هو في هذا الديوان نفثات لا تَقُل إنها متوزعة على الأغراض الشعرية التقليدية من غزل ورثاء ونسيب... إلخ
لا! هي نفثات محلقة في عالم الخيال لا يسهل فهم دلالاتها إلا بشق الأنفس أحيانا، وأحيانا توقن أنها شعر من دون أن تقدر على وضع إصبع فهمك على ما يريده الشاعر.
وتعرفك بمضامين هذا الديوان قصيدة فيه بعنوان "منبع الإلهام" التي تضمنها الديوان فكأنها تعطيك صورة عن الغرض الشعري عند الشاعر ولد أحمدو. وزيادة على ذلك لعلها تختصر كل ما عالجه الديوان في متفرقاته.
قصيدة "منبع الإلهام":
فتحت شباك الصباح أغرد*** لما تلألأ خدها المتورد
غنيت للشمس الأميرة بلبلا*** من سحرها صور الجمال أجرد
أنشدت أقطار السما غزلي بها*** فمن الحيا شفق المسا متورد
نسجت خيوط قصائدي قمرا لها**** فالليل عن كلل المها متجرد
طرزت من لغة الحجاز عباءتي*** فغناي شماخ الصدى ومزرد
طوفت في جزر الغرابة سائحا*** لقصور لألاء القريض أمرد
ورفعت راية غيمة قزحية**** فلعبقر حبك المجرة مورد
وهواتف الإلهام ملأ سما الغنا*** يا منبع الإلهام ما ذا أنشد
هطلت علي من البيان غمائم**** وطفاء تبرق بالغناء وترعد
تتموج اللغة الأثير بخافقي***** فالشعر للحلم المحلق مصعد
الآن عن سبإ كشفت غطاءها*** فمعي يبشر بالكتاب الهدهد
هومت أعصر خمرة الأفراح من*** كرم الفراديس التي تتأود
إني نفضت عن الأغاني غبرة*** كيما يلين من القوافي المقود
وتراقصت حور الصبايا وانتشى**** بحر الأناشيد المحيط المزبد
فشوارق الإلهام هاطل حكمة**** وحمام مخضل النبوغ مغرد
يهتفن بالتكبير في سكر الغنا**** أمكبر هذا الغنا ومعربد
فالروض من أرض القلوب أزاهر*** والطلح من خضر الجنان مخضد (انتهت
)
أما الآن فلن نعلق لك أيها القارئ على هذا التصوير الحديث والتعابير الجديدة والفريدة في هذا النص ولن ندلك عليها فبإمكانك تملَّيها إنها كثيرة فيه وطافحة وأنت الآن أصبحت تعرف الشاعر.
مديحية صاخبة:
نذكر في الختام أن الديوان تضمن قصيدة يخاطب فيها الشاعر المدينة المنورة "طيبة" وهي رائعة جدا حشد فيها الكثير من الصور المزلزلة منها تلك الصورة الأخاذة التي ختم بها:
تنشق عنه كنوز الذكريات رؤى ** فيخفق القلب شلالا من الألق
ولم يكرر فيها التعابير المألوفة في مخاطبة مثل هذه البقعة المباركة كان فريدا في الصياغة والنسيج مهوِّما في فضاءات عالية قد لا يسهل عليك فهم الدلالات فيها، ولولا بعض الإيضاءات المبثوثة في النص وعنوان القصيدة لما استطعت أن تجزم بالضبط عن ما ذا يتحدث.