وثيقة الهدنة مع القاعدة.. قراءة أولية | البشام الإخباري

  

   

وثيقة الهدنة مع القاعدة.. قراءة أولية

طالعت وثيقة نشرها موقع الجزيرة نت، قيل إنها موجهة من قيادة تنظيم القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي إلى قيادة إمارة الصحراء التابعة له في شمال مالي.
ورغم ان الوثيقة لم يكتب عليها تاريخ إرسالها أو كتابتها، الأمر الذي يجعل من غير الممكن مساءلتها تاريخيا، أو بناء على وقائع وأحداث معينة، غير أن جملة ملاحظات تتعلق بالشكل والمضون، تبرز للوهلة الأولى عند إمعان النظر في هذه الوثيقة. 
أولها أن الرأسية التي تصدرتها كتبت عليها عبارة "تنظيم القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي"، وهو اسم قديم للتنظيم، تغير منذ فترة طويلة، حيث أصبح الإسم الرسمي للتنظيم هو "تنظيم قاعدة الجهاد ببلاد المغرب الإسلامي"، ويكتب بخط مميز ومعروف، على شكل رأسية رسمية للتنظيم (الصورة).
ثانيا الرسالة موجهة لشخصين هما: "أبو الهمام" والواضح أن المقصود "يحيى أبو الهمام" (أمير منطقة الصحراء الكبرى منذ أكتوبر عام 2012 حتى الآن) أما الثاني فيدعى " أبو مسلم بلال"، وهي كنية لشاب جزائري يدعى، "سلام عميروش" وشهرته "بلال الجزائري"، وهو شخص معروف كان أحد أبرز المدربين العسكريين في سرية الفرقان بالصحراء، ومن أوائل الجزائريين الذين التحقوا بشمال مالي سنة 2004، وقد شارك في الهجوم على ثكنة لمغيطي العسكرية في شمال موريتانيا، تحت قيادة المختار بلمختار، وبعد الخلاف بين "بلمختار" وقيادة التنظيم سنة 2007، وتنصيب "يحيى أبو عمار" أميرا للصحراء، انحاز "بلال أبو مسلم" إليه، وعمل تحت إمرة القائدين الميدانيين "عبد الحميد أبو زيد" و"يحيى أبو الهمام"، وشارك في الكمين الذي قاده "أبو زيد" ضد القوات الموريتانية في بلدة تورين بشمال البلاد في سبتمبر عام 2008، ولم يكن قائد سرية أو كتيبة، وإنما مجرد مقاتل ومدرب عسكري، لكن الإشكال المطروح هو أن "بلال أبو مسلم" الذي وجهت له الرسالة قتل في أواخر شهر يوليو عام 2010، خلال عملية مشتركة بين الجيش الموريتاني والجيش الفرنسي شمال مدينة تمبكتو، (الصورة المرفقة نشرها التنظيم على موقعه سنة 2010)، وهي العملية التي أسفرت حينها عن قتل سبعة عناصر من التنظيم بينهم موريتانيان هما: عبد القادار ولد احمدناه المكنى "خالد أبو مرداس"، وأبو بكر الصديق ولد عبدي المكنى "أبو الخطار"، ورد عليها التنظيم بإعدام الفرنسي "ميشل جرمانو" الذي كانت العملية تهدف إلى تحريره، ومهاجمة مقر القيادة العسكرية في مدينة النعمة بسيارة مفخخة، أي أن "أبو مسلم بلال" قتل قبل أن يتولى "يحيى أبو الهمام" منصب إمير منطقة الصحراء الكبرى بسنتين وثلاثة أشهر، فإن كانت الرسالة كتبت خلال فترة حياة "أبو مسلم" (قبل شهر يوليو عام 2010) كان من اللازم أن توجه للقائم بأعمال أمير الصحراء حينها "نبيل أبو علقمة"، والذي يتبع له أمراء السرايا وعناصرها بمن فيهم يحيى أبو الهمام وأبو مسلم بلال، وليس من المعهود أو الوارد أن تخاطب قيادة التنظيم، قادة من الصف الثاني أو الثالث، دون المرور بقيادتهم المباشرة، بل من المعروف عن التنظيم صرامته في الوقوف عند تلك الشكليات التنظيمة والإجراءات التراتبية، أما إن كانت الرسالة موجهة إلى "يحيى أبو الهمام" بوصفه أميرا للصحراء (أي بعد شهر أكتوبر عام 2012) فإن "بلال" قد مضى على موته ـ ساعتها ـ أكثر من عامين وثلاثة أشهر.
كما تضمنت الوثيقة استشكالا لعبارة "المحايدة" وهو أمر مستغرب جدا، إذ من المعلوم أن عبارات من قيل المتاركة (يترك كل طرف الطرف الآخر) و المحايدة (يحيد كل طرف الطرف الآخر) و المفاصلة (ينفصل كل طرف عن الطرف الآخر) هي عبارات كثيرة التداول في قاموس الحركات الجهادية، بل تكاد تكون من نحتها، وبالتالي فإن استفسار قيادة التنظيم عن معناها وإلحاحها في ذلك أمر مثير للاستغراب.
كما ورد في الرسالة خطأ إملائي فظيع حيث كتبت عبارة "طواغيت موريتانيا يطلبون منكم كلمت تكون رسمية"، وهو أمر ملفت للانتباه، إذ من المعلوم أن ملف المراسلات الداخلية والخارجية في التنظيمات التابعة للقاعدة من اختصاص مسؤول الإعلام بوصفه القناة الوحيدة للاتصال، وخلال فترة وجود "بلال أبو مسلم" في الصحراء كان مسؤول الإعلام في التنظيم "صلاح قاسيمي" المكنى "صلاح أبو محمد"، وهو كاتب متمرس وعلى مستوى كبير من الثقافة والمعرفة خصوصا باللغة العربية، وتمكن العودة إلى بيانات التنظيم في تلك الفترة للتأكد من ذلك.
كما تضمنت الوثيقة عرضا من النظام الموريتاني بالإفراج عن جميع سجاء التنظيم مقابل المحايدة، أي تحييد التنظيم لموريتانيا عن قائمة أهدافه، والواضح أن مورتانيا منذ نهاية عام 2011 باتت خارج أهداف التنظيم، إذ لم يسجل أي هجوم أو نشاط مسلح للتنظيم على أراضيها، لكن أيا من السجناء لم يفرج عنه، باستثناء اثنين يحملان الجنسية المالية هما: عمر الصحراوي الذي أفرج عنه بعد تسلميه لمالي، في عملية تبادل الراهائن الإسبان الذين اختطفوا نهاية شهر نوفبر سنة 2009 على طريق نواكشوط ـ نواذيبو، وعبد الرحمن ولد مدو الذي أفرج عنه كذلك بداية عام 2012 مقابل إخلاء التنظيم سبيل الدركي الموريتاني اعل ولد المختار الذي اختطف من مدينة عدل بكرو نهاية عام 2011، ويحق لنا هنا أن نتساءل كيف تحقق للنظام الموريتاني ما أراد من تحييد البلد عن أهداف التنظيم، دون أن يلبي الشرط الذي عرض هو نفسه تلبيته ـ كما ورد في الرسالة ـ ويفرج عن جميع السجناء، بل أورد هنا حديثا لأحد قادة التنظيم يقول فيه: "النظام الموريتاني لا يمكن أن نثق فيه أبدا، أو نتفق معه، فهو نظام مخادع لا عهد له، وكلما وصلتنا منه إشارات إيجابية أعلنا حالة الاستنفار توقعا لغدره.."، هذا فضلا عن ما نقل عن بعض الوسطاء في ملف الرهائن الفرنسيين، من أن نقل السجناء السلفيين من نواكشوط في مايو عام 2011 إلى قاعدة صلاح الدين العسكرية في شمال البلاد، جاء ردا على إلحاح الفرنسيين بضرورة الاستجابة لمطالب القاعدة بالإفراج عن بعضهم ضمن صفقة تحرير رهائن "شركة آريفا" الذين اختطفوا من شمال النيجر، ومنعا لتواصلهم مع قيادة التنظيم في شمال مالي للتنسيق في الموضع.
أما ما تضمنته الرسالة من عدم استهداف الجيش لموريتاني بناء على تعليمات مجلس شورى التنظيم، فإن الأمر ليس بالجديد ولا المستجد، فقد أجريت شخصيا مقابلة صحفية مع "المختار بلمختار" في نوفمبر عام 2011 وأخرى مع "يحيى أبو الهمام" بعد تنصيبه أميرا للصحراء في أكتوبر عام 2012، ونشرتا حينها (يمكن الرجوع إليهما)، وأكد كل منهما أن الجيش الموريتاني لم يكن يوما هدفا لتنظيم القاعدة ولا ضمن قائمة أهدافه، وأن العمليات التي وقعت على الأراضي الموريتانية، وقتل فيها جنود موريتانيون لم يكن الجيش هو المستهدف بها أصلا، باستثناء عملية لمغيطي التي اعتبروها ضربة استباقية لوجود أمريكي قالوا إن الرئيس السابق ولد الطايع كان يخطط له في المنطقة، أما عملية تورين فكان الهدف منها الاستيلاء على بعض المواد المتفجرة المملوكة لشركة سنيم والمخزنة في منجم المهودات واختطاف بعض الغربيين الذين يوجدون في تلك المنطقة، فاعترضهم الجيش الموريتاني بعد رصدهم، لكنه وقع في كمين لهم عند مضيق تورين المعروف، وكذلك عملية الغلاوية، كان الهدف منها اختطاف بعض السياح الأجانب، قبل ان تصادفهم وحدة من الجيش الموريتاني، أما عملية باسكنو وهجوم نواكشوطك فيقول التنظيم إنهما نفذا ردا على توغل الجيش الموريتاني في شمال مالي ومهاجمته لمعسكرات التنظيم هناك.
ومن هنا يمكن القول إن توصية مجلس الشورى بعدم استهداف الجيش الموريتاني ليست بالجديدة، لكن الجيد هو توقف كل العمليات والاستهدافات داخل الأراضي الموريتانية منذ بداية عام 2012، بما في ذلك استهداف الأجانب والمصالح الغربية في البلد، ومرد ذلك أن التنظيم في تلك الفترة دخل في تحالف مع جماعتي "أنصار الدين" و"التوحيد والجهاد في غرب إفريقيا" وشرعوا في التخطيط للاستيلاء على شمال مالي، وهو ما تحقق لهم في نهاية شهر مارس وبداية شهر إبريل عام 2012، ثم انشغلوا بعد ذلك بتسيير الشؤون اليومية للسكان الذين باتوا تحت سيطرة حكمهم في المدن والقرى، وتوقفت خلال تلك الفترة كل عمليات التنظيم خارج منطقة أزواد، ضف إلى ذلك معلومات أخرى أوردتها في كتابي "القاعدة وحلفاؤها في أزواد"" وهي أن أمير جماعة "أنصا الدين" إياد أغ غالي، الذي كان يقود تنسيق الحركات الجهادية في أزواد، طلب عشية بدء عملياتهم العسكرية في شمال مالي ـ خلال اجتماع قادة الحركات الجهادة ـ من التنظيمات المتحالفة معه، التوقف عن تنفيذ هجمات داخل دول الجوار، خصوصا موريتانيا انطلاقا من أزواد، مبررا تأكيده على ضرورة التوقف عن استهداف موريتانيا بالقول إن مهاجمتها انطلاقا من أزواد يعرض اللاجئين الأزوادين للمضايقة وخطر الاعتقال أو الطرد، وأن مصالح الأزواديين في موريتانيا كبيرة ولا ينبغي تعريضها للخطر، وهو ما استجابت له قيادة تنظيم القاعدة، بينما رفضه أمير "جماعة التوحيد والجهاد في غرب إفريقيا "عبد الرحمن ولد العامر" المكنى "أحمد التلمسي" الذي واصل إرسال عدد من الانتحاريين والسيارات المفخخة إلى الجنوب الجزائري (مصدر هذه المعلومة الشيخ أغ أوسا الذي كان نائبا لإياد غالي وحضر الاجتماع المذكور). 
وعشية بدء فرنسا الحشد للحرب على الجماعات الجهادية في شمال مالي نهاية عام 2012 أعلن قادة التنظيم في خطبهم وبيانهاتهم ومقابلاتهم أن أي بلد يتجنب المشاركة في الحرب ضدهم سيكون بمنجاة من عملياتهم وهجماتهم، ومع اندلاع الحرب في يناير عام 2013 أحجمت موريتانيا عن إرسال قوات إلى شمال مالي، فرد التنظيم بتحييدها عن قائمة أهدافه الحالية، مركزا على الدول المشاركة في الحرب مثل النيجر وبركنافاصو وساحل العاج..
ومن هنا يمكن أن نقول إن الوضعية الحالية بين موريتاينا والقاعدة تقوم حاليا على استراتجية "المحايدة" أو "المتاركة"، أي أن كل طرف حيد الطرف الآخر عن قائمة أهدافه، أما ما سوى ذلك من دفع للأموال أو إفراج عن السجناء، فلا توجد أدلة أو إشارات تعزز فرضيته، وما نشر من وثائق سواء تعلق الأمر بوثيقة المخابرات الأمريكية التي ضبطت في المنزل الذي قتل فيه زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن في "آبوت أباد"، أو الوثيقة الحالية موضوع النقاش، فإنها لا تقدم إجابات متماسكة تصمد أمام أول محاولة للقراءة والتحليل.
والله تعالى أعلم.

من صفحة العميد : محمد محمود أبوالمعالي