المختار ولد داهي
لا يُخْطِئُ المراقب المهتم بالِشأن الوطني ملاحظةَ سيطرة السياسة و التسيس علي اهتمامات جميع الموريتانيين علي اختلاف ألسنتهم و أعراقهم و أعمارهم و أجناسهم و مراكزهم و منابتهم و منازعهم و دُخُولِهِمْ،... فألسنتهم جميعا رَاشِحَةٌ بما في آنِيًتِهَا، رَطِبَةٌ من "المِرَاءِ السِيًاسِي" الذي يملأ طَنِينُهُ جميع الوسائط الإعلامية "التقليدية" و العصرية حول فروع القضايا الوطنية و "أَسْقَاطِها "... حتي استحقت بلادنا اللًقَبَ الإعلامي "بَلَدَ المِلْيُون سياسي" من قِبَلِ إحدي أشهر القنوات التلفزيونية العربية.
و لقد أعمي "الصًخَبُ السِيًاسِي" بَصَائِرَ الصفوة من الموريتانيين حتي لا تكاد تسمع نداء فكريا و لا تحليلا علميا و لا مقترحا "بَدَائِلِيًا" متعلقا بالمشكلات الاقتصادية و التنموية الكبري لهذا البلد الذي يُشاع علي نطاق واسع – حُبُورًا و غُرُورًا أو تَهْلِيلاً و تَهْوِيلاً- بأنه بلد غني بالثروات الطبيعية التي يقذف بها باطن الأرض في حين أنه يئن تحت وطأة مؤشرات مُحْزِنَةٍ تم نشرها مؤخرا في مجالات الفقر و انتشاره و التعليم و رَدَاءَتِهِ و العَطَلِ و فَدَاحَتِهَ....
كما رَانَ "اللًغَطُ السياسي" علي عقول جميع النخب الموريتانية حتي بدا أنها تؤجل إلي "الكَالَنْدِ الإِغْرِيقِي" التفكيرَ الجاد و المسؤول و العمل الاستباقي و الوقائي بخصوص "الألغام الاجتماعية" العديدة التي تَتَخَطًفُ المجتمع الموريتاني كالإرث الثقيل للاسترقاق و رواسبه و التركة المزعجة لانتهاكات حقوق الإنسان من طرف الأنظمة الاستثنائية و شبه الاستثنائية و موروث التراتبية الاجتماعية البغيض و سؤال التوازن المناطقي الطًارِفِ و التًلِيدِ و عُضْلَةِ التوزيع العادل للثروة بعد عقود من الغبن و الحيف والاحتكار و و"عَوِيصَةِ" التعليم الوطني "المُفَخًخِ"...
فمنذ عقود أربعة تقريبا و موريتانيا غارقة مستغرقة في الشأن السياسي لا صوت يعلو أو يُسمع فيها مع صوت السياسة حتي ذاع في أوساط عديدة محلية و أجنبية بأنها البلاد التي لا تَغْرُبُ عنها شمس السياسة؛ و يرجع بعض المتابعين للشأن السياسي الوطني انشغال الموريتانيين بالسياسة و السياسة وحدها تقريبا سواء في ذلك العاكف و البادي إلي عدة عوامل منها:-
أولا: إرث التغييرات اللادستورية: لقد عرفت موريتانيا منذ 1978 محاولاتِ تغييراتٍ لادستوريةٍ عديدة و متكررة منها ما نجحت في انتزاع السلطة و كثير منها لم توفق في ذلك و قد أفضت تلك التغييرات اللادستورية الناجحة و الفاشلة إلي جدل لا منقطع حول الشرعية السياسية للأنظمة الحاكمة وإلي مُغَالَبَةٍ مستديمة بين السياسيين و رَهْطِهِمْ و شِيعَتِهِمْ استخدمت و تُستخدم فيها كل "الأسلحة المعنوية" المشروعة و "غير المشروعة" مما أنتج حالة من التعبئة الشاملة و النفير العام حول القضايا السياسية؛ ثانيا: مرارةُ فشل المعارضة التقليدية في الظفر بالتداول علي السلطة: يُرجع بعض المحللين حرارة المشهد السياسي إلي المرارة" التراكمية" لفشل المعارضة التقليدية في الظفر بالتداول علي السلطة لُطْفًا لا عُنْفًا مما حدا بأحزاب المعارضة إلي التسخين الدائم للمشهد السياسي عسي أن يُعجل ذلك بفرصة للتداول علي الحكم تبدو دائما أو غالبا كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ بالنسبة للمستعجلين و المتعطشين للسلطة؛ ثالثا: المقاربات التًأْجِيجِيًةُ" للرأي العام من طرف الموالاة و المعرضة معا: أدي الاستقطاب السياسي العنيف معنويا بين الموالاة و المعارضة إلي اعتماد كلي الطرفين لمقاربة تأجيجية للرأي العام الوطني فرفعت المعارضة شعار "التشويش في مواجهة التهميش"و عمدت إلي تضخيم خطايا و أخطاء النظام و تلفيقها و إنشائها إنشاءً في بعض الأحيان ابتغاء الإضرار بسمعة و مصالح النظام مع شيئ من نقص الحيطة و الحذر و كثير من التفريط أحيانا بالأمن المجتمعي العام والمصالح العليا الواسعة في سبيل المكاسب السياسية الضيقة.
كما لجأت الأنظمة السياسية الحاكمة أيضا و خصوصا الأنظمة الاستثنائية و شبه الاستثنائية التي تعاقبت علي هذا البلد إلي تشغيل "طَوَاحِينِهَا " الدعائية و التعبوية من أجل نَفِيرِ النخبة "الكِلْيَانِيًةِ" و شَحْنِ عامة الناس بالدفاع عن "المكتسبات الوطنية" و اعتبار النظام القائم مهما كان "نظاما ضروريا" يساوي بقاؤه بقاءَ بَيْضَةِ الدولة و المجتمع.
و لئن قال قائل بأن العقل الموريتاني مُحَيًدٌ، مُغَيًبٌ و مُنَوًمٌ بفعل "المُخَدِرِالسِيًاسِي" و أن عجلة الإصلاح الاجتماعي و النمو الاقتصادي و المراجعات التعليمية مُعَطًلَةٌ بفعل كوابح التجاذب السياسي الدائم و الأبدي بين المعارضة و الموالاة و أشياعهما فلا أملك إلا أن أقول بأنه أصاب عين الحقيقة مضيفا بأن الحوار السياسي "الخالص للوطن" هو وحده القادر بمشيئة الله علي تطبيع المشهد الوطني عبر توفير الضمانات اللازمة "لِطَهَارَةِ" الاقتراع الانتخابي و استعادة المعضلات و "الألغام" الاجتماعية لاسْتِعْجَالِيًتِهَا و الهموم و الشواغل الاقتصادية لِصَدَارَتِهَا و المشاكل و المستجدات السياسية لحجمها...ساعتها سيستعيد المشهد الوطني توازنه و عافيته و صحته بعد أن كاد يقنط و يَيْأَسُ من ذلك الحَادِبُون و المشفقونَ.