مدخل إلى تاريخ موريتانيا: كتاب جديد للأستاذ محمذن ولد باباه يجمع بين غزارة المعارف و حسن التأويل
الأحد 16-12-2018| 00:46
بقلم الأمين بن محمد بابه قسم التاريخ بجامعة انواكشوط العصرية
بعد تحقيقه المفيد والممتاز للنصوص التاريخية للشيخ محمد اليدالي ولد محمد سعيد أصدر الأستاذ محمذن ولد باباه مؤخرا كتابا بعنوان : مدخل إلى تاريخ موريتانيا من دخول الإسلام –القرن الثاني الهجري – إلى اكتمال عملية الاستعمار سنة 1934 بمطبعة المعارف الجديدة في الرباط ـ بالمملكة المغربية.
يأتي هذا المؤلف في 262 صفحة من الحجم المتوسط، توزَعت على خمسة فصول عناوينها بالتوالي :
ـ الحياة في الصحراء؛
ـ حركة المرابطين؛
ـ مولد شعب جديد في غرب صحراء البيظان؛
ـ نشأة الإمارات المعاصرة في غرب الصحراء؛
ـ معالم على طريق الاحتلال
يضاف إلي ذلك ملحقات تضم رسالة اللمتوني إلي السيوطي، وأنساب بعض الإمارات، إلى جانب فهارس الآيات القرآنية والمراجع والأعلام والمجموعات القبلية والأماكن.
يقدم هذا الكتاب عرضا بانوراميا ومجملا لماضي البلاد؛ حيث أنه يتجاوز الحدود الزمنية المقيَدة في العنوان الثانوي حين افتتح بالعصر الحجري، واختتم بسياق الاستقلال، وإرهاصات قيام الجمهورية الأولي.
غير أن هذه الكليات لم تمنع الأستاذ باباه من إعطاء بعض الجزئيات حقها في التفصيل والتحقيق، وقد اعتمد في كل ذلك على كم هائل من المصادر والمراجع تتفاوت في التداول والشهرة؛ فقد يكون من أبرز ما انفرد به هذا العمل وفرة المصادر التاريخية المباشرة و غير المباشرة التي اعتمد عليها و نعني بغير المباشرة نصوص الأدب والفقه والنوازل والمناقب، التي لا تبدوا في ظاهرها مرتبطة بالتاريخ و التي يستند إليها أستاذنا لسعة اطلاعه على مظانَ الخبر التاريخي، فلا مراء في أن الرجل انفق أيامه في البحث عن النصوص وتحصيلها ومطالعتها وإعمال العقل المتدبر فيها وتلك لعمري أرقي مراتب فن التاريخ.
أبتكر الأستاذ باباه تحقيبا تاريخيا خاصا به غير أن ما يلفت الانتباه هو عرضه لكل طور من مراحل التاريخ على منظومة القيم الوطنية؛ فهو كلما خلص من الحديث عن الوقائع طفق يبحث في مسائل نشأة المجتمع وبروز الكيان و تأسيس الدولة .
إن هذا الهاجس يتخلل كل النص وكأن الباحث في التاريخ يلبس أحيانا جلبابه كرجل دولة يبحث في ماضي أمته عن أسباب كبواتها المعاصرة؛ ويمثل هذا المبحث الإشكالية المركزية للكتاب حيث يخوض الكاتب مرارا في مسألة البنية الاجتماعية و السياسة وعلاقتها بالوقائع وكيف أن الواقع التاريخي حال غالبا دون قيام ذلك الكيان الموحَد المنشود، ومن مظاهر تعلق الكاتب بهذه القيم الوطنية و انشغاله بهموم الأمة تقديمه لتاريخ أفارقة موريتانيا (البولار والسوننكي والولوف) وكأنه يبحث عن تراث جامع وأصول موحدة للأمة، ثم إنه في مسعاه التوفيقي هذا يعتب على الزوايا بخصوص الغلو الإيديولوجي المفضي إلى التدابر والجفاء، كما ينتقد عليهم غياب الواقعية البارزة في المنحي التجريدي للفتاوى.
ومع هذه الجوانب الإيجابية فإنه لا مناص من ذكر بعض المآخذ على هذا التأليف، لعل أولها غياب خاتمة جامعة مانعة تستخلص المسائل الجوهرية والاتجاهات الأساسية لتاريخ البلد، ويمكن أن نعدَد بعد ذلك عدم ضبط دور الزعيم الكدالي يحي بن إبراهيم، والاختزال الزمني الكبير لما بين "انكسار شوكة" بني غانية في سجلماسة وإقامتهم كيانات سياسية؛ مثل إدَيْشلَ في آدرار وانيرزك في الكبلة، وكذا استخدام عبارة "المهدي" كلقب لعبد الله بن ياسين، وهو الزعيم الروحي للمرابطين الذين لا يليق بهم لقب يختص بالنحل الباطنية وقد يستغرب أيضا اعتماد المؤلف عبارة " الاحتلال السلمي المسلح" بدل الترجمة المعهودة "التغلغل السلمي".
إن هذا العمل في مجمله تأليف على قدر كبير من الأهمية؛ إذ يرفد المكتبة التاريخية الموريتانية بمساهمة نوعية معتبرة، وهو بجمعه بين غزارة المعارف وجودة التأويل يستحق الإشادة والتنويه وهو فوق تسميته المتواضعة "مدخل تاريخ موريتانيا" يستأهل عنوان "مجمل تاريخ موريتانيا".