لعل الجدل المحتدم حول أصول قبائل صنهاجه العريقة من أكثر المواضيع التاريخية إثارة للجدل ليس في هذه الربوع فحسب وإنما في كل منطقة الشمال الإفريقي لما لهذه القبائل من وزن حضاري وسوسيولوجي وديموغرافي كبير.
لقد حسم مؤرخوا العرب ونسابتهم وعلماؤهم أمر عروبة صنهاجه منذ أن بدءوا تدوين تاريخهم وأنسابهم قبل أكثر من اثني عشر قرنا إلى حد التواتر الذي يكاد الخطأ أن يستحيل معه، فقال بها كل من ابن الكلبي (110 هـ - 204 هـ) والزبير بن بكار(172هـ- 256هـ) والطبري(224هـ -310هـ) والهمداني(280هـ- 334هـ) واليعقوبي (ت.284هـ)وابن سلام(224هـ) والسمعاني(506هـ -562هـ) والجرجاني(467هـ) وابن الأثير(555هـ- 630هـ) والسلطان الاشرف عمر بن يوسف بن رسول (ت.696هـ)وابن خلكان(608هـ- 681هـ) وابن جزي الكلبي(721هـ- 757هـ) وابن الخطيب(713هـ- 776هـ) والفيروز آبادي(729هـ- 817هـ) وصاحب الحلل الموشية والرشاطي(466هـ- 542هـ) وعبد الغني الاشبيلي وعبد الحق المالكي وياقوت الحموي (574هـ - 626 هـ)،،، وغيرهم، وقد سار على منوال هؤلاء الفطاحلة مؤرخوا وعلماء هذه البلاد من المتقدمين دون استثناء، من أمثال أحمد البدوي المجلسي وابن أخيه حماد والشيخ سيد المختار الكنتي وسيدي عبد الله بن الحاج ابراهيم العلوي وصالح بن عبد الوهاب الناصري... الخ
وخرج عن هذا الإجماع العربي المؤرخان الكبيران ابن حزم(384هـ -456هـ) وابن خلدون(732هـ - 808هـ) الذين صنفا صنهاجة في عداد البربر استنادا إلى قول مؤرخي البربر الذين أجمعوا بدورهم على بربرية صنهاجه، وقد لقيت هذه الرواية قبولا كبيرا عند الغربيين عند احتلالهم لمنطقة الشمال الإفريقي لحاجة في نفوسهم فجعلوا منها حقيقة ثابتة غير قابلة للنقاش ولقيت هذه الرواية المرجوحة آذانا صاغية عند بعض نخب المنطقة من المتأخرين.
الجدل حول هذه المسألة لن ينتهي بطبيعة الحال ما دامت زوايا الرؤية متعددة بين المهتمين بهذا الشأن، ومع ذلك فيمكن تسجيل جملة من الملاحظات والافتراضات القابلة للنقاش والتي أعتقد أنها جديرة بالبحث والاهتمام:
- عندما جزم مصنفوا العرب الأوائل بعروبة صنهاجة في القرن الثاني الهجري كانت هجرة هؤلاء إلى شمال إفريقيا حديثة نسبيا، مع ما يعنيه ذلك من قرب في المصادر ومصداقية فيها، بعكس الرواية الأخرى المتأخرة نسبيا.
- لم تكن للقوم حين أثبت مؤرخوا العرب عروبتهم دولة يعتد بها، خوفا منها أو طمعا فيها، بعكس الرواية الثانية التي وردت والقوم في عز قوتهم ونفوذهم.
- لا بد أن الصنهاجيين عندما قدموا إلى شمال إفريقيا كانوا مجموعة صغيرة، ولا بد أنهم استقطبوا بفعل مكانتهم العسكرية التي تحدث عنها المؤرخون فئات ومجموعات كبيرة من سكان الأرض الأصليين فنتج عن هذا التلاقح شعب صنهاجي وافر العدد بنواة عربية وامتدادت سلالية أمازيغية إفريقية وثقافة مختلطة تجسد اللهجة الصنهاجية إحدى أهم تجلياتها.
- عندما قامت الدولة اللمتونية الصنهاجية على هذه الربوع وامتد نفوذها إلى أصقاع شتى في الشمال والجنوب وحتى قبل ذلك حينما استقلوا بالصحراء وأقاموا عليها دولتهم الأولى في القرن الهجري الثالث، في كل هذه الفترات لم يكن الانتساب إلى العرب من غير آل البيت ولا حتى من قريش أو العدنانية ليضيف إلى القوم قوة سياسية بالمعنى المادي على الأقل، بل لعل الانتساب الأمازيغي يومها في منطقة شمال إفريقيا كان أدعى إلى تحصيل القوة والنفوذ حسب النظرية الخلدونية القائمة على الأبعاد العصبية القبلية.
- تبربر ألْسنة القوم ليس دليلا كافيا على أنهم عجم، فأغلب العرب الذين حطوا الرحال في شمال إفريقيا وفي موريتانيا بالذات بعد دخول الإسلام وقبل الهجرة العربية الكبرى لقبائل المعقل وبني هلال وبني سليم تبربرت ألسنتهم.
- ما كان لشيوخ المرابطين وأمرائهم وعلمائهم من عهد الداعية والقائد عبد الله بن ياسين ومن عاصروه ومن جاءوا بعده المعروفين بورعهم وتمسكهم بحرفية الإسلام واعتزازهم الحصري به وحده أن يدعوا الانتساب إلى آباء غير آبائهم.
- لم يكن من الصدفة سرعة تحول الصنهاجيين إلى اللغة العربية بعد أن توفرت شروط التعرب الكامل للبلاد بعد بسط قبائل المعقل الجعفرية لسيطرتها على معظم الصحراء والأقاليم المتاخمة لها.
- صحيح أن اللغة العربية قبل وصول قبائل بني حسان كان تداولها في الأوساط الصنهاجية محدودا ولا يتعدى النخب المتعلمة، لكن من الخطأ القول أن أول دخول لها كان مع الهجرة الحسانية، ويشبه هذا الزعم البعيد عن الحقيقة ما يزعمه البعض من أن الجعفريين قبل دخولهم المجال الشنقيطي لم يكونوا أهل دين ولا أهل علم.
- لقد أحرز القوم رصيدا عظيما من المجد والسؤدد تراكم على مدى الحقب وعلى مر القرون، قائم على مرتكزات النبل من علم وشجاعة وكرم... يحول بينهم وبين الفخر والاعتزاز بغير أحسابهم والانتساب لغير آبائهم وأجدادهم.
- أمة الأمازيغ أمة إسلامية عظيمة ساهمت في رفع راية الإسلام وإقامة حضارته الخالدة شأنها في ذلك شأن أمم العرب والكرد والحبش والترك والفلان والقبط والولوف والسونيكي... وغيرهم من أمم الإسلام العظيمة التي لا تفاضل بينها إلا بالتقوى..
- لا يوجد أي مسوغ شرعي ولا أي منطق عقلي يبرر أن يرغب المرء عن الانتساب لآبائه وأجداده، أيا كان عنصرهم، لا سيما إذا كانوا أهل دين وعزة وشموخ..
وخلاصة القول أنه لا يجادل في عروبة صنهاجه الآن إلا مكابر، فالقوم إما عرب عرباء أو عرب مستعربة، والحقيقة التي يُسندها البحث ويؤكدها الواقع أنهم يجمعون بين الصفتين، فهم عرب عرباء استعجموا ردحا من الزمن في ظروف محددة ثم عادوا وتعربوا.
والعلم عند الله.
من صفحة المدونة الربانية على الفيسبوك