محاولة انقلاب فاشلة جديدة! (ح 1 / 2)
مدخل: في نظرية "الانقلاب الدائم على الشعب"!
في الفصول الأخيرة من كتاب "أزمة الحكم في موريتانيا" أصلتُ وفصلتُ ظاهرة "الانقلاب الدائم على الشعب" التي جسدها انقلاب العاشر من يوليو بمختلف حلقاته المتسلسلة طيلة ثلاثين سنة أتت على الأخضر واليابس، وأهلكت الحرث والنسل! وما زال شهودها وشهداؤها وآثارها بارزة للعيان نارا على علم. (ص 204) ولا مكابرة في محسوس!.
... ومع انبلاج حركة 3 أغسطس الوطنية المجيدة التي حررت الجيش والشعب من قبضة القوى الرجعية المفسدة، ووضعت حدا لتحكم السفارات الأجنبية في القرار السيادي، وفتحت أبواب السجون التي كانت مليئة بالأحرار والأئمة والعلماء، وأطلقت الحريات العامة، ورأبت صدع الوحدة الوطنية المهيضة، وفتحت آفاق الحرية والديمقراطية والإصلاح، وطردت إسرائيل صاغرة ذليلة وجرفت وكرها القذر نهارا جهارا ..إلخ. ساورنا أمل قوي في الخلاص من تلك الظاهرة التي ظننا يومها أن حقبتها ولت إلى غير رجعة، وأنها صارت جزءا من الماضي السحيق..
ولكن هيهات!
إذ سرعان ما عاد يومئذ سدنة النظام المطاح برأسه إلى الساحة السياسية "من أبواب متفرقة" مستغلين مراكز نفوذهم الواسع، وهيمنتهم على جهاز الدولة، وقلة حزم السلطة الجديدة وتمالؤ بعض رموزها معهم ومحاباتهم لهم، وفساد الإدارة، وعمى المعارضة، وهشاشة المجتمع، وفساد الحالة المدنية، فوظفوا المال الحرام في شراء الذمم، واستحوذوا على البرلمان، واستباحوا رئاسة الجمهورية، وأجهضوا عملية التغيير برمتها.. فأمنوا بطاقة عودتهم إلى سدة الحكم وسيطرتهم على الاقتصاد الذي هو بيت القصيد!
ولما لم تستسلم نواة حركة التغيير والإصلاح أمام العاصفة، ووقفت لهم بالمرصاد؛ سولت لهم أنفسهم أمر الاستحواذ على الرئيس الجديد وعزله عن أغلبيته والانقلاب به على الشعب الطامح إلى التغيير، وعلى شرعية وبرنامج وقادة حركة 3 أغسطس، وعلى الجيش الوطني العظيم الذي هو صمام أمن واستقلال ووحدة وتقدم الوطن. فكان لهم ما أرادوا؛ فدبروا به انقلابهم الفاشل فجر 6 أغسطس 08 الذي كاد أن يوقع البلاد في داهية لا تبقي ولا تذر لولا أن قيض الله لها أبناء بررة ردوا كيد المنقلبين في نحورهم وجعلوه هباء منثورا!
ما أشبه الليلة بالبارحة!
طويتْ صفحة انقلاب ليل 6 أغسطس 08 الرجعي الفاشل..فشمر الوطن عن عقول وسواعد أبنائه الحرة، وبدأت إعادة تأسيس الدولة الموريتانية: فتحققت المصالحة والوحدة الوطنية، وجرمت العبودية، وبني جيش وطني جمهوري قوي، وهزم الإرهاب، وحورب الفساد، وأرسيت الديمقراطية، وشيدت البنى التحتية، وقضي على أحياء الصفيح البائسة ..إلخ. كل ذلك وغيره حقق في عشرية وطنية عظيمة كرست من بين ما أنجزت: أن الشعب هو مصدر السلطة وهي تكتسب وتمارس وتنقل في إطار التداول السلمي وفقا لأحكام الدستور؛ وحدّت مأمورية رئيس الجمهورية بخمس سنوات قابلة للتجديد مرة واحدة؛ وأعلنت الاعتراف بالتنوع الثقافي للشعب الموريتاني أساسا لوحدته الوطنية ولحمته الاجتماعية. وكان ختامها مسكا؛ إذ أعلن الرئيس المنتهية ولايته وقوفه ضد التيار واحترامه المطلق للدستور وعدم ترشحه لمأمورية أخرى، وترشيحه لأخيه وصديقه وشريكه في النضال وفي العمل الوطني الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني.
لم تأل قوى "الانقلاب الدائم على الشعب" التي تتوزع بين المعارضة والموالاة جهدا في مقاومة هذا المسار السوي والخيار الصحيح، وبذلت قصارى ما لديها في الإطاحة به وإفشاله. لكن الشعب صوت لصالحه بأغلبية مريحة أوصدت الباب في وجه جميع منافسيه، وكان حكمه صريحا وجليا وواضحا عبر صناديق الاقتراع في عملية شفافة ونزيهة حظيت باعتراف وتنويه الوطن والعالم أجمع.
وما إن استلم فخامة الرئيس المنتخب محمد ولد الشيخ الغزواني مقاليد الحكم من أخيه الرئيس محمد ولد عبد العزيز في حفل مهيب، وبدأ تصريف شؤون البلاد، وفقا لمبادئ حركتي 3 و6 أغسطس؛ وهو من قادتهما، وتوجيهات حزب الاتحاد من أجل الجمهورية الذي رشحه وسانده، والخيارات الوطنية التي امتاح منها تعهداته وبرنامجه الانتخابي، وأعلن - عن حسن نية- انفتاحه الطبيعي على الشعب الموريتاني كله؛ سواء في ذلك من صوتوا له ومن عارضوه، وفتح باب القصر الرئاسي أمام كثيرين، حتى هبت قوى "الانقلاب الدائم على الشعب" التي وقفت ضد التغيير خلال المرحلة الانتقالية، واستحوذت على الرئيس الأسبق وانقلبت به على أغلبيته وعلى الشعب انقلابا فاشلا ليل 6 أغسطس 08، والتي وقفت بكل ما لديها من قوة وإمكانيات ضده هو في الانتخابات الأخيرة، واصطفت خلف منافسيه وأعدائه، فهرولت تراوده وتتلون له في مشهد انقلابي بديع؛ محاولة الاستحواذ عليه لتلعب به أو معه نفس اللعبة الانقلابية الفاشلة التي لعبت مع بعض أسلافه الغافلين!
ما هكذا يا قوم تورد الإبل!
سنة من العهد الجديد المبارك (20%) انصرمت. وكانت سنة شهباء بامتياز بسبب ما أفسده وباء كورونا من جهد ووقت ومال، وما انتشر خلال تلك السنة أيضا من إفك وهتك للأعراض وإفساد لذات البين، كي تنصرف الدولة والمجتمع إلى جدال بيزنطي، وفتنة عقيمة، ويغوصا في وحل الماضي، فينشغلا به عن إصلاح الحاضر وصنع المستقبل! ولعل كورونا كان بنا أرحم من الإفك!
أين صيانة الإرث الوطني والمنجزات الجبارة التي حققتها موريتانيا بعَرَقِها ودمائها ودموعها؟ وأين التعهدات والعهود والوعود بالعمل على صيانة المكاسب وإعلاء صرح الوطن بأمانة وإخلاص؟ وأين خطط مواجهة وباء كورونا، وما بعد كورونا؟
كيف نترك حاضرنا ومستقبلنا سدى، وننصرف إلى ما هو "أعظم": دق إسفين بين رئيس الجمهورية وأغلبيته الوازنة ورفيق دربه وصديقه الحميم، ونعوضه إياهم بأعداء، كما عوضت العملة الصعبة المغلولة في البنك المركزي بعملة مزورة لا تسمن ولا تغني من جوع؟
يتواصل