يقصد باستقلالية القضاء، عدم وجود أي تأثير مادي أو معنوي أو تدخل مباشر أو غير مباشر وبأية وسيلة في أداء السلطة القضائية؛ بصورة تؤثر في عملها المرتبط بتحقيق العدالة،
كما يعني أيضاً رفض القضاة أنفسهم لهذه التأثيرات والحرص على استقلاليتهم ونزاهتهم.
ويقوم مبدأ الاستقلالية على مجموعة من المرتكزات التي تعززه، من قبيل اختيار قضاة من ذوي الكفاءات والقدرات التعليمية والتدريبية المناسبة، ومنحهم سلطة حقيقية تتجاوز الصلاحيات الشكلية، وتسمح للسلطة القضائية بأن تحظى بنفس القوة المتاحة للسلطتين التشريعية والتنفيذية، وتجعل القضاء مختصاً على مستوى طبيعة الهيئة القضائية والصلاحيات المخولة، مع توفير الشروط اللازمة لممارستها في جو من الحياد والمسؤولية، بالإضافة إلى وجود ضمانات خاصة بحماية القضاة من أي تدخل يمكن أن تباشره السلطتان التشريعية والتنفيذية في مواجهة أعمالهم أو ترقيتهم أو عزلهم أو تنقيلهم، وإحداث نظام تأديبي خاص بهم، كما يتطلب وجود هيئة مستقلة تسهر على اختيار القضاة وتعيينهم على أساس الكفاءة والكفاءة فقط .
ينطوي مبدأ فصل السلطات على أهمية كبرى على اعتبار أنه يحدّد مجال تدخل كل سلطة على حدة ويمنع تجاوزها، فهو إحدى الركائز التي تنبني عليها الممارسة الديمقراطية، وسمة من سمات الدولة الحديثة التي تدعم دولة المؤسسات وتحترم حقوق الإنسان.
غير أن هذا المبدأ لا يعني الفصل الصارم والمطلق بين السلطات الثلاث (السلطة التشريعية، والسلطة التنفيذية، والسلطة القضائية) ذلك أن القاضي يظل بحاجة إلى سلطة تنفيذية تسمح بتنفيذ الأحكام والقرارات، ويظل بحاجة أيضاً إلى قوانين ملائمة تصدرها لسلطة التشريعية؛ كما أن المشرّع بدوره يبقى بحاجة إلى السلطتين التنفيذية والقضائية، والسلطة التشريعية هي بحاجة إلى السلطتين القضائية والتنفيذية.
أكدت العديد من المواثيق والإعلانات الدولية أهمية استقلالية القضاء في تحقيق العدالة، وطالبت الدول باحترام هذا المبدأ وبلورته ميدانياً، فالمادة 16 من إعلان حقوق الإنسان والمواطن لعام 1789 تشير إلى أن: «كل مجتمع لا تكون فيه ضمانات للحقوق، ولا فصل للسلطات؛ ليس لديه دستور».
كما أن المادة العاشرة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان تشير إلى أن: «لكل إنسان الحق، على قدم المساواة التامة مع الآخرين، في أن تنظر قضيته أمام محكمة مستقلة نزيهة نظراً عادلاً علنياً للفصل في حقوقه والتزاماته وأية تهمة جنائية توجه إليه».
تتأسس استقلالية القضاء على مرتكزات ذات طابع شخصي ترتبط باستقلالية القاضي نفسه وحياده وحصانته المادية والمعنوية؛ وأخرى ذات طابع موضوعي ترتبط بتقوية القضاء بالشكل الذي يجعل منه سلطة حقيقية على قدم المساواة مع السلطات الأخرى وعدم التدخل في مهامها واختصاصاتها من لدن السلطات الأخرى (التشريعية والتنفيذية) أو التطاول والمساس بالاختصاص الأصلي للقضاء من خلال محاكم استثنائية أو مؤسسات تنفيذية وتشريعية.
يحيل مصطلح التنمية إلى مجموعة من التحولات المهمة التي تطال المجتمع في مختلف المجالات (الاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية، والمعرفية، والتقنية) بالصورة التي توفر الشروط اللازمة لحياة أفضل داخل المجتمع وتحقق التطور والرفاه لأفراده..
إن تحقيق التنمية المستدامة باعتبارها مطلباً استراتيجياً، يلبّي احتياجات الحاضر من دون الإخلال بقدرات واحتياجات الأجيال المقبلة، يتطلب استحضار مجموعة من المقومات والعناصر القانونية والمؤسساتية والاجتماعية والتقنية، وهذا ما تؤكده العديد من التجارب العالمية في عدد من الدول الحديثة في آسيا وأوروبا وأمريكا اللاتينية التي قطعت أشواطاً مهمة في هذا المجال.
ويعتبر القضاء المستقل مؤشراً محورياً ضمن مؤشرات التنمية الإنسانية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية المعتمدة من قبل العديد من المنظمات والمراكز الدولية، فهو مدخل فعال للتغلب على الجريمة في مختلف أبعادها ووسيلة رئيسية لترسيخ العدالة وحماية الحريات وضمان احترام حقوق الإنسان، وسيادة الثقة في القانون والمؤسسات والتشجيع على الاستثمار.
وبرغم تأكيد عدد من الدول العربية على استقلالية القضاء في دساتيرها، فإن واقع المؤسسات القضائية في مختلف هذه الأقطار، يبرز حجم التناقض بين التّنصيص القانوني والممارسة الميدانية، الأمر الذي يكلفها هدر الكثير من الإمكانات والطاقات.
يشكل القضاء المستقل ملاذاً آمناً يطمئن له المواطنون، وهو يضمن سلامة المعاملات والاتفاقيات التجارية والاقتصادية، كما يدعم أيضاً الجهود الرامية إلى القضاء على الفساد وكل مظاهر الريع.
إن غياب منظومة اقتصادية مبنية على المنافسة الشريفة والشفافية وتكافؤ الفرص، يكلّف الدولة والمجتمع هدر كثير من الطاقات والفرص اللازمة لتحقيق التنمية، وتشكل نزاهة القضاء أحد العناصر والمؤشرات التي تغري المستثمر المحلي أو الأجنبي بتوظيف أمواله واستثمارها في قطاعات منتجة محفزة وداعمة للتنمية.
غالباً ما يخشى المستثمرون المخاطرة برأسمالهم في فضاءات غير شفافة، فما يهمّ المستثمر بالدرجة الأولى سواء كان مواطناً أو أجنبياً، هو توافر مناخ من الأمن القضائي والقانوني الداعم لكل المبادرات أو المعاملات الاقتصادية والتجارية المشروعة.
إن دور القضاء المستقل يتجاوز حلّ النزاعات المطروحة داخل المجتمع، والاكتفاء بتطبيق القانون بصددها، إلى إعطاء دينامكية وحيوية للتشريعات عند التطبيق، بما يخرجها من رتابتها ويجعلها في مستوى التحولات المجتمعية المتسارعة والمعاملات المتطورة في مختلف المجالات.
لقد كان لظهور القضاء المتخصص في القضايا التجارية أثر كبير في تجاوز التعقيدات التي تطرحها القضايا ذات الصلة، من حيث توفير الأجواء الملائمة لمعاملات تجارية واقتصادية سليمة ومحفزة على الاستثمار.
إن ربح رهان تنمية في مستوى تطورات المجتمع والتحديات المطروحة في أبعادهما المختلفة، لا يمكن أن يتحقق إلا بقضاء مستقل ونزيه، يضمن حقوق الأفراد، ويسعى إلى تسوية مختلف النزاعات القائمة بينهم بصورة عادلة، وإرساء الشعور بالثقة في القوانين والمؤسّسات والحياة الاقتصادية.
إن كسب رهان استقلالية القضاء لا يتحقق بالتنصيص الدستوري فقط، بل بإصلاح شامل يدعم هذه الاستقلالية عبر تحديث المحاكم وتطوير أداء القضاة والموظفين وتحفيزهم، وتجاوز مختلف التعقيدات.. وجعل المؤسسات القضائية قريبة وفي خدمة المواطن.