“هنالك مأساتان في الحياة. إحداهما الرغبة المشْبعة والثانية الرغبة غير المشْبعة.” أوسكار وايلد
ـ1ـ باريس تعود شيئا فشيئا هذا الصباح إلى حياتها الطبيعية أو شبه الطبيعية. بعض المقاهي والمحلات عادت إلى روتينها وبعضها مكتظ بالزبناء. واختفت بنسبة معتبرة مشاهد الحرب وأصوات سيارات الإسعاف التي استمرتْ طيلة الليلة الماضية. مع ذلك ما تزال الأنظار تبدو مصوبة الى مصادر الأخبار. موجات القلق في باريس تنعكس غالبا بنوع من الرغبة في التواصل مع الآخرين. يتنافس التحفظ والحذر التقليدي مع نوع من الجسارة المتصاعدة على تبادل غير المعارف الحديثَ في الشارع وفي الأماكن العامة.
ـ2ـ خلْف هذه العودة السريعة إلى الروتين الطبيعي تتخفى – أو تظهر – أشياء كثيرة. فرنسا ومعها أوربا تبدأ أو ستبدأ دون شكّ مرحلة جديدة مغايرة لما قبلها. أحداث الساعات الماضية كانت شبيهة إلى حد كبير بالسيناريوهات الأكثر تشاؤما والتي تحَدَّث عنها عددٌ من المعنيين في الأشهر الماضية ( أحداث البارحة تشبه إلى حدّ التطابق السيناريو الذي توقَّع حدوثه منذ أسابيع القاضي الفرنسي مارك تريفيديك في مقابلة مع مجلة “باري ماتش” : 30 سبتمبر 2015).
ـ3 ـ من غير المتوقع أن يتوقف الموضوع عند زيادة الصلاحيات القانونية والمخصصات المالية للأجهزة الأمنية بشكلها التقليدي. ولكن ما هي الخيارات الأخرى المتاحة للسلطات الفرنسية الحالية (ومعها الأوربية) فيما يتجاوز الإجراءات الاستثنائية التي هي بطبيعتها إجراءات مؤقتة؟ يعني ذلك بعبارة أخرى أن فرنسا وأوربا مقبلتان على تحول مؤسسي بنيوي في الأشهر والسنوات القادمة. وهو تحولٌ لا يمكن أن تُحدّد ملامحَه الأساسية الإجراءات التي يتمّ الآن الإعلانُ عنها والتي تعود في معظمها إلى تصورات وأنساق تقليدية أثبتتْ أحداث البارحة وهذا الصباح أنها صارتْ متجاوزة. فالقدرات البشرية واللوجستية والمالية لجماعات الجريمة المنظمة التي تقف خلف هذه التفجيرات وطرقها الاختراقية تنتمي إلى سياق رعبِ جديد.
ـ4ـ استخدام الرعب الدموي المتضاعف كلغة كونية، واستخدامه كلغة وكغاية في آن، أصبحا محددين لعدد من التنظيمات المسلحة الصاعدة. إنها لم تعد على ما يبدو معنية بإنتاج أي خطاب تبريري، سياسيا أو أخلاقيا. حتى استنفار خطاب الثأر البدائي بثنائياته وتعميميته لم يعد العنصر الخطابي الأبرز لدى هذه التنظيمات. في أفقها العنفُ هو الخطاب، وهو محتوى الخطاب. أصبح الرعبُ الدموي معيارا بذاته. تعميمُ صوره المفرطة عبر توظيف مفرط لتقنيات الإعلام الجديد يسعى بداهةً إلى تشكيل معيار يبرر ذاته بصيغ مستقلة عن كلّ مرجعية أخرى أو معيار آخر. هذه الجاذبية المذهلة للعنف في أبشع تجلياته لدى شرائح شبابية معولَمة يبدو أنها لم تؤخذ على محمل الجدّ. فالمزايدة الدائمة في إظهار مستويات من البشاعة الدموية تتجاوز كل المستويات السابقة وكل التوقعات أظهرتْ تمتّعها بسلطة إغرائية وإغوائية كونية تتجاوز كل الانتماءات الثقافية والجغرافية. وتساهم في خلق لغة معولَمة مبنية على صورة الدم وشهوة الدم.
ـ5ـ بالإضافة إلى نظام الأسد والمجموعات الدمويه الشرسة فإن هنالك مستفيدا ثالثا من هذه الجرائم. يتعلق الأمر بالمجموعات الهوياتية المختلفة التي ضاقتْ ذرعا بحجم التعاطف النسبي مع اللاجئين الذي عبرتْ عنه بعض الأوساط الأوربية منذ أواخر الصيف الماضي. ستشعر هذه الأطراف الهوياتية أن الفرصة أصبحتْ مناسبة لها لاستعادة زمام المبادرة. الاسلاموفوبيا السياسية ـ المحسوبة وغير المحسوبة على الهوياتية ـ ستكتسب قوة أضافية كعامل موحِّد، كعامل يُلغِي مؤقتا التناقضات والعداوات البينيىة لعدد من التيارات المتموقعة في مختلف إحداثيات الخريطة السياسية والإيديولوجية الأوربية.
ـ6 أما الضحايا المباشرون وغير المباشرين فقائمتهم كالعادة طويلة. ولا شك أن من بين أوائل الضحايا في مثل هذه السياقات الحسّ النقدي. وأنَّ من بينها كذلك القدرة على تجاوز الثنائيات البدائية (نحن وهم إلخ.). وأنَّ بينها أيضا الحرص على تفادي التعميمات الشعبوية. من المؤكّد، في الخلاصة، أنَّ الحقّ والعدل هما أول ما تدوس عليه شهوة الدم والغرائز البدائية المحايثة لها.
* مدير معهد الدراسات والأبحاث العليا في بروكسيل وأستاذ بجامعة دفين في باريس. د. محمد بدي أبنو