لمن يزور فرنسا اليوم يرى مدى تأثير الاعتداء الإرهابي الأخير، ليس فقط في الاقتصاد والحركة السياحية، بل في ثقة الفرنسيين بمجتمعهم وأمنهم وسياسييهم، وإمكاناتهم على تجاوز هذه الأزمة قبل السقوط في مرحلة اللبننة والصراعات الطائفية. فرنسا تتخبط بين رسالتها التاريخية في الانفتاح وحماية حقوق الإنسان، وبين واجبها في الحفاظ على أمنها وعلمانيتها، التي تعتبر مبدأ دستوريا لا يمكن الرجوع عنه.
للأسف ليس أمام الفرنسيين الكثير من الخيارات، وهي قيد التداول من دون خجل في أوساط المسؤولين والمفكرين والمواطنين، وتتمحور حول سحب الجنسية من الأشخاص الذين يتصلون بشكل أو بآخر بـ«داعش» أو بالحركات الإسلامية المتطرفة. والحكومة بصدد التحضير لاقتراح تعديل دستوري يسمح لها باتخاذ مثل هذه الإجراءات، كما أنها تفكر في إجلاء أي شخص يهدد أمن فرنسا وبإعادة العمل بالخدمة العسكرية. من سوء حظ «داعش» أنه ضرب فرنسا في ظل حكومة اليسار الاشتراكي، التي مددت حالة الطوارئ لثلاثة أشهر، ووجدت نفسها مضطرة إلى التراجع عن قرار كانت قد اتخذته بتخفيض عدد رجال الأمن والإمكانات المخصصة لهم، وهذا ما اتفق مع مطالب حزب اليمين بزعامة الرئيس السابق نيكولا ساركوزي، العائد بقوة إلى حلبة السباق الرئاسي، مع حظوظ وفيرة بالربح إذا ما ظل هاجس الأمن طاغيا. في هذا السياق، يتم التحضير للتصويت على قوانين تمنع المواقع الالكترونية وشبكات التواصل الاجتماعي التي تروج لداعش، وتشديد شروط الهجرة إلى فرنسا وزيادة التنصت، كما تعلو الدعوة إلى إقفال المساجد التي تبث روح التطرف، والى بناء مراكز تدريب على المواطنة للمجنسين، وتفعيل المناهج التربوية، ومنع الفرنسيين المشاركين في الحرب في سوريا، وعددهم حوالي 1500 متطرف، من العودة الى فرنسا، وتشديد الضربات العسكرية والتنسيق الأمني ضد المتطرفين في سوريا والعراق، وغيرها من الإجراءات الرادعة التي تمنع أي انحدار أمني في فرنسا بشكل يهدد السلم الأهلي.
إلا أن هذه الخطوات لا يمكن ان يكتب لها النجاح من دون التنبه إلى عدم الانزلاق نحو إسلاموفوبيا داخل فرنسا، قد تؤجج الصراعات بدلا من إخمادها، وهذا ما يريده داعش. كما يجب على السلطات الفرنسية العمل على تشجيع الإسلام المعتدل داخل فرنسا، الذي يقبل بالعلمانية كمنهج دولة، والتنسيق مع الدول العربية والإسلامية لحثها على اتخاذ إجراءات راديكالية ضد التطرف، والاستمرار في المقابل في دعمها للقضايا المحقة، وعلى رأسها القضية الفلسطينية، وفي عدم دعم الدكتاتوريات، أو عدم اللعب على تأجيج الصراعات الطائفية داخل الإسلام.
يبقى على المسلمين في فرنسا وكل الدول الغربية أن يتحملوا مسؤوليتهم التاريخية في رفض واضح وصريح وقوي لكل أشكال العنف، التي ترتكب باسم الإسلام، والدعوة في المقابل إلى الاندماج في المجتمعات الغربية واحترام خصوصيتها وقيمها ومبادئها، وأن يقدّموا انتماءهم لفرنسا على أي انتماء آخر، طالما إنهم اختاروا طوعاً العيش فيها والحصول على جنسيتها.
إذا توافرت جميع شروط ما تقدّم ذكره، يكون داعش قد أخطأ في التوقيت وفي الهدف، وسينقلب سحره عليه، أما في حال فشلت فرنسا فنحن أمام صراع حضارات طويل لن نشهد نهايته ما حيينا.. إنها مسألة اختيار بين وحشية داعش ورومانسية فرنسا!
موقع الصحراء