يتحدث العلامة محمد عبد الرحمن ولد فتى للسراج عن شؤون علمية وأدبية شتى، يتحدث عن الصيام في البادية وفي نواكشوط مطلع السبعينيات وعن أدب التجارة والتصوف ومساراته وعلاقاته بالفقه
نص المقابلة
السراج : فضيلة الشيخ لنعد إلى ذكرياتكم مع رمضانكم الأول
ولد فتى : ذكرياتي مع رمضان منوعة، وأحبذ أن أضرب الذكر صفحا عن رمضاني الأول وأن أنتقل إلى الذي يليه ثم ما بعد ذلك، فقد كان رمضاني الأول بداية عقد السبعينيات وفي البادية، قريبا من نواكشوط في منطقة تقرب من الكلم 110 شرقي نواكشوط وهذا موقع السكن والمولد
كان نظام الشباب في ذلك الوقت يقوم على المبادلة بين نوم الليل والنهار لظروف أبرزها الدراسة المحظرية حيث يدرس الطلاب ليلا، وينامون نهارا، ثم إن لليل نصيبه الدائم من لهو الشباب وعثبهم وهو أمر لا يتخلون عنه.
وأنا بعد ذلك أسأل الله تعالى أن يغفر ويستر تلك الأرمضة الأولى وأن يتقبل ويبارك فيما تبعها من عمر.
وبعد ذلك توالت الأرمضة بعد ذلك، وصمت أغلبها في العاصمة نواكشوط منذ العام 1972، وظروف المدينة مختلفة عن البادية، وقد لا تكون شاقة جدا، إلا في بعض الأعمال مثل التي كنت أمارس وهي تجارة السقط.
السراج : ماذا عن المقارنة بين الصيام في البادية وفي العاصمة؟
محمد عبد الرحمن ولد فتى : الظاهر على ما يبدو أن رمضان في فترات الصبا والشباب يخلو من كثير من المعاني التربوية التي شرع الصيام لأجلها، وأنا على سبيل المثال تركت الأرمضة الثلاثة الأولى ولم أصل فيها التراويح مع أنني أحفظ القرآن الكريم أسأل الله أن يغفر لي ويتجاوز عني
ثم إن جو العاصمة حينها ليس مغريا على الصوم وعلى أي كسب تربوي يترقى بالنفوس ويقوم اعوجاجها، فقد كانت الدعوة فيها خافتة أو معدومة ومحاضن الخير قليلة جدا.
والمساجد حينها قليلة جدا لا تتجاوز 10 مساجد في العاصمة كلها، أبرزها مسجد الشيخ بداه ولد البوصيري ومسجد سوق الطحانات إمامه الشيخ محمدو حامد بن حميدي رحمهم الله ومسجد الشرفاء لإمامه الشيخ محمد الأمين ولد الحسن حفظه الله.
وقد كان رواد المساجد أيضا قلة جدا، وكان الناس يرخصون لأنفسهم في الغياب عن المساجد وخصوصا التجار فلم يكن هنالك أي تاجر يغلق محله لينتقل إلى المسجد من أجل الصلاة، وهي عادة دأب عليها التجار الموريتانيون في تجارتهم في السنغال فقد كان يأنفون عن الصلاة في المساجد السنغالية لأعذار أكثرها واه وضعيف من قبيل أن أغلب الأئمة لا يحسنون القراءة وأنهم يصافحون النساء، ثم نقلوا تلك العادة إلى نواكشوط حين استوطنوها.
السراج : ماذا عن دراستكم المحظرية وشيوخكم
محمد عبد الرحمن ولد فتى : أحبذ غالبا أن لا أسأل عن هذا الموضوع، وعلى كل حال فقد اهتم الوالدان رحمهما الله بتدريسي القرآن وقد حدثتني الوالدة رحمها الله أنها بدأت تكتب لي في السنة الرابعة إلى أن بلغت حوالي الأربعين حزبا، ثم نقلتني رحمها الله إلى رجل من أقاربي ليدرسني القرآن – مد الله في عمره – وعليه أكملت القرآن الكريم، في السنة الثامنة من عمري
وبعدها انتقلت إلى محظرة أهل الغوث شمالي بوتلميت حيث أقمت معهم حتى أجازني شيخي الشيخ محمد أحمد ولد الغوث أوائل سنة 1669
ثم عدت إلى باديتنا ومكثت ثمة سنتين أتلقى بعض المعارف على يد علماء وأساتذة من حينا قبل أن أغادر – تقليدا لأترابي – إلى نواكشوط لممارسة التجارة.
ولم أدرس بعد ذلك أي دراسة محظرية، اللهم بعض السماعات من الشيخ بداه ولد البوصيري في درسه للتفسير في مسجده، وكذا بعض السماعات المسجلة في الإذاعة من الشيخ محمد سالم ولد عدود وبعض اللقاءات القليلة، إضافة إلى بعض المطالعات في الكتب.
السراج : ماذا عن التصوف وأخذكم على بعض المشايخ؟
محمد عبد الرحمن ولد فتى : كانت لدي علاقة بالتصوف وأخذت على شيخ من العارفين – أحسبه كذلك ولا أزكي على الله أحدا – وهو الشيخ أحمدو بن محمد عبد الرحمن ولد فتى وكان من أجلاء العلماء والمربين الأفذاذ، محبا للخير والسنة داعيا إليهما وكنت أزوره مرة واحدة في السنة،ولما انتقل إلى رحمة الله – وذلك ما أرجوه له – لم أجدد الورد على خليفته لموقف طرأ لي من التصوف بعد ذلك.
ثم ألجأتني ظروف أخرى إلى ترك تلك الطريق ولعلها قريبة مما ذكر المختار بن حامدن رحمه الله
وجاءت بعد ذاك صروف دهر
صرفن إلى الشراء والابتياع
نقيم الوزن ثم بكل كيل
ونوفي الكيل ثم بكل صاع
السراج : ماذا عن التجارة وطرائفها وغرائبها
محمد عبد الرحمن ولد فتى : غرائب التجارة وطرائفها لا تنتهي وكدها وخصوصا ما مارسته منها لا ينتهي وصاحبه عرضة لألسن الناس فيتأثر عرضه وعرضة لأن يتأثر ماله بديون الناس فلا يبقى منه شيئ، حتى يلجئه الحال إلى قول الشاعر
إذا رشدا لا تبع بسوى النقد
ولا تغترر بالوعد من كل ذي وعد
فجل بني ذا الدهر يدان معرضا
ويحجو قضاء الدين من شيم الوغد
فعاملهم بالنقد تستبق ودهم
وترشد وإلا لا سبيل إلى الرشد.
وفي التجار أيضا ألباء كرام يعملون في خير ويوفرون للناس حاجياتهم ويكرمونهم ويحافظون على العرض والعرض، لا يكذبون ول يغشون، وهم كثر وتجارتهم مع الناس ومع الله رابحة.
السراج : أدب التجارة في موريتانيا كثير جدا، هل من نماذج منه
محمد عبد الرحمن ولد فتى : وضع بعض الناس بعض الأقفاف،منها قف الحانوت المشهور، والموريتانيون أولى فكاهة وعبقرية.
ومن ذلك قول المختار ولد حامدن رحمه الله
ما كل مهديك رأيا رأيه جكني والحق أبلج لا يخفى على فطــن
لا تبتعن بسوى نقد فإن بنــــى ذا الدهر ما بين كريم عاطل ودنى
أما الكريم فعار أن تداينــــــه والغير ليس على شيء بمؤتمـــن
والدين غايته استرقاق صاحبه والرق مذ زمن ألغته مــــــورتن
وللوكافة بشكل خاص أدب خاص بهم وهو كثير، كما أنه تكثر فيهم للأسف المسلكيات الشائنة مع بعض رواد الحوانيت، إضافة إلى عدم المسؤولية وقد قال بعض الأدباء
مول البوتيك المتوحد
ظاهر فصلو في الوكافة
والوكافة ما فيهم حد
ماهو وحدو للمال آفة
السراج : ثمة صراع دائم بين الوكاف ومالك الحانوت هل تذكرون شيئا من نماذجه؟
محمد عبد الرحمن ولد فتى : دون شك ثمة ذلك الصراع الدائم، وتبادل التهم فمالك المال لا يفتأ يتهم الوكاف في أمانته وفي فطنته وحذقه في العمل وللوكاف تهم أخرى يوجهها لمالك المال، وربما طرد مالك المال الوكاف، فيمر الوكاف على زملائه فيسألونه عن سبب طرده فيقول : أراد أن يترك علي العمل كله فرفضت ذلك وخرجت من تحمل كل هذه المسؤوليات.
وربما أيضا ظهرت الطرائف في التعامل مع الضرائب فأذكر مرة في سوق المقاطعة الخامسة تحرك أهل الضرائب يطالبون بجبايات كبيرة، وحركة البيع ضعيفة جدا، فكنا نغلق الدكاكين الصباح ونفتحها مساء
فقلت مرة : من الضرائب عاد زاد
للسوق الما رايب
فزارني مرة صديقي محمد ولد المختار ولد ابنو فقلت له لقد قلت آخر كاف من لبير لكنني لم أستطع إكماله وحكيته عليه فقال
رايب من غش السوق عاد
الماء لاهل الضرائب
ومن الضرائب عاد زاد
للسوق الماء رائب
فقلت له : لقد بقي لك لا بارك الله لك فيه.
وطرائف التجارة كثيرة لا تنتهي ولا تنقضي
وقد قال لي أحد الأصدقاء مرة
شفتك في السوق تذوق
الكليان ادور يكان
الكليان ال منهم في السوق
ظرك إعود الا لك كليان
فقلت له : كابظ عت وذا ما ينزاد
بيك ادور بدعك يزيان
الكليان ومندرتي زاد
شتروق امل في الكليان
السراج : لنعد إلى التصوف والعلاقة بين التصوف والفقه في موريتانيا
محمد عبد الرحمن ولد فتى : كانت العلاقة وطيدة جدا بين الفقه والتصوف في موريتانيا ولم يخل التاريخ أيضا من مواقف لبعض العلماء من التصوف تصحيحا وترشيدا
وأغلب تلاميذ التصوف يعتقدون أن من لم يتصوف قد أصبح مطية للشيطان، حتى أن كلمة الشيخ لم تكن تطلق على غير المتصوف حتى وإن كان عالما جليلا، وعموما فقد قل من لا يحمل سندا في التصوف وخصوصا في منطقة الترارزة التي عشت فيها، كما لم تخل هذه المنطقة أيضا من سجالات وصلت حد الهجاء بين تلاميذ التصوف ومناوئيهم من مدارس علمية أخرى، وعموما
وكل يدعي وصلا بليلىى
وليلى لا تقر له بذاكا
السراج : ماذا عن العلاقة الطبيعية بين التصوف والفقه
محمد عبد الرحمن ولد فتى : قوام العلاقة الطبيعية بين التصوف والفقه أن يكون التصوف مقام إحسان وأن يكون التصوف علما للحلال من الحرام بما فيه ما يتعلق بتربية النفوس ولا بد من تفقيه التصوف بحيث يكون منضبطا بضوابط الشرع مسددا لطريق السائرين إلى الله.
وقد شاع للأسف وانتشر أن ينتسب إلى التصوف من لا يصدق أفعاله أخلاق التصوف ولا مراقي الإحسان ولعل هؤلاء يصدق عليهم قول الشاعر الكبير محمد يحيى ولد مكاهي
وصوفة عصر لا كصوفة من مضى
هي السعي للدنيا بكل ركون
وعلى كل حال يبقى أفذاذ من أهل العلم والورع والزهد لا يدخلون في هذا الصنف ولا يقتربون منه، والأساس في كل شيئ وزن الأمور بميزان الشرع حتى يأمن الإنسان من الزلقات ولا يسلم من تلك الزلقات فقيه ولا متصوف
يتواصلوعلى كل حال فلم تكن تلك السجالات على قدم واحد لا من حيث مضامينها ولا قدرة أهلها، فربما انتقد بعض العلماء على بعض أشياخ التصوف مسائل وقضايا لها حظ من النظر ومستند من الشرع وربما سكتوا عن أشياء أخرى لم تسكت عنها الشريعة ولم تبحها.,
ولعل مرد ذلك غياب متون السنة ودراستها في هذه البلاد، فلم تكن بالكثرة المشاعة ولما ظهرت كتب السنة ظهرت أسئلة وقضايا جديدة واتخذ النقاش منحى آخر، فأضاف قضايا خلافية جديدة، وأنهى النقاش في قضايا أخرى..
ونرجو للجميع العودة إلى جادة الحق والتقرب إلى الله بالحق والبحث عنه.
السراج : ماذا عن جانب التأليف لدى الشيخ فتى
محمد عبد الرحمن : لم تحدثني نفسي بأنني أهل للتأليف حتى أبرز للناس شيئا مكتوبا، وعلى كل حال كنت قد نظمت شيئا في تفسير فاتحة كتاب الله تعالى، ولم يكن لي من هدف حينها وأنا أنظم ذلك النظم إلا أن يكون لي حظ ولو قل في خدمة كتاب الله تعالى.
وقد طال علي التأليف وناهز الآن نيفا وعشرين وثلاثمئة وألفا من الأبيات وليس على مستوى واحد، فمنه الجيد والضعيف والمتوسط، وهذا في المضمون وفي سبكه الشعري أيضا.
وهو في الجملة في مداخل العلوم المستفادة من الفاتحة ولم أتعرض فيه للأحكام المتعلقة بها في الصلاة من قراءة وغير ذلك..
وضمنه مقاطع عن مراتب الهدايات العشرومراتب العبوديات، وقضايا الواقع الزمني وحب المنزلة، إلى غير ذلك من مداخل العلوم التي استفادها العلماء من فاتحة الكتاب الكريمالسراج : ماذا عن البرنامج العلمي والتربوي الذي ينبغي أن يركز عليه الصائم؟
محمد عبد الرحمن : لا شك أن الصائم العاقل الذي يعرف قيمة رمضان وفضائله سيعرف أن الوقت أضيف من الهبات الربانية ومما يمكن أن يحصل عليه من فضائل وترق في مدارج السالكين.
وعليه فإن برنامج الأخ المسلم ينبغي أن يبدأ بصلاة الجماعة في المسجد فجرا، فالاستغفار وانتظار الشروق، ثم الأذكار وقراءة ورده من القرآن الكريم ثم أخذ قسط من الراحة ثم الإقبال على أعماله التي تتعلق بأرزاقه وأعماله والتزاماته، ثم بتدريسه لغيره إذا كان من أهل العلم أو مراجعته لما يحفظ ولمتون الشريعة وكتبها إذ لابد للعلم من مراجعة دائمة ومعاهدة دائبة
ثم صلاة الجماعة في المسجد ظهرا، ثم الانكباب قليلا على بعض الأمور المعينة من الاستغفار والذكر، ثم الاستعداد لصلاة العصر وخدمة المسجد بالكنس والتنظيف ومسابقة الليل، ثم الاستعداد بعد ذلك للفطر وما ينبغي له، يبدأ فترة قيام رمضان وصلاة التراويح والتلذذ بسماع القرآن، والسعي لتوطيد العلاقة مع القرآن، ثم أن يأخذ قسطا من النوم ليلا، فإذا استمر هذا المسار وعرف الإنسان أن هذا العمر هو رأس ماله زاد وكد من أجل الخير وثابر وارتفعت همته وتاقت نفسه إلى المراتب العلىا والسموق الإيماني.
السراج : ثمة أسئلة قديمة جديدة عن توحيد الرؤية.
محمد عبد الرحمن : الحمد لله رب العالمين أن نجانا من اختلاف الرؤية هذا العام وذلك فضل من الله عظيم جنبنا الله به الخلاف والتباعد.
وعموما فإن نجونا من مخلفات البداوة، ومن عوائق التعصب وتوفرت بعض الوسائل والفرص للجنة الأهلة أمكن أن نقلل نسبة الخلاف ونرفع مستوى الرضا عن أداء تلك اللجنة ونجنب المسلمين فوضى المطالع وأزمات الأهلة..
ولجنة الأهلة على كل حال مؤتمنة وتبذل ما تملك من جهد، ولا يتصور في هذا المجال الغش ولا المخادعة إذ لا عائد على اللجنة من ذلك بشيئ.
السراج : ماذا عن الرقيا التي انتشرت الآن وأصبحت مثل محلات التجارة؟
محمد عبد الرحمن : لقد خشيت منذ فترة أن تتحول الرقية الشرعية كما يسميها الناس اليوم إلى نفس الأسلوب الذي كانت عليه أحوال الشعوذات والمشعوذين وما أثاروا من فساد وضيعوا من حقوق ومزقوا من أواصر وأفسدوا من عقائد، وأخذ أموال الناس بإرهاق ومن دون استحقاق
وعلى الرقاة أن يبحثوا عن وسيلة يحمون بها صفة الشرعية التي ألصقوا برقيتهم.
والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.