البشام الإخباري/ الوالدان حين يُرَحلان إلى انواكشوط بحجة الوقاية من حر الداخل..
تفرض عليهما الإقامة الجبرية في غرفة لا يدريان ليلها من نهارها، يقدم لهما الطعام كما يقدم إلى الماعزة المحتجرة في الإصطبل، لا يَزوران، ولا يُزاران...يبقيان نهارهما تحت رحمة الصغار الذين لم يبلغوا سن المدرسة والروضة..فيصبحان وقد اشتعل منهما الرأسان شيبا، ووهن منهما العظم، وضمر الجسم، يصبحان حاضنين لأحفادهما في غياب أبويهما إلى العمل، وذلك قيد جديد، وسبب من أسباب سجنهما المؤبد مع الأعمال الشاقة، باختصار يتحول الوالدان في بيت أبنائهما إلى(حكامين الشاشره)..
تحتقرهما الخادمة، فتحدث جهرا وهما يسمعان، وتشمر عن مناطق جسدها المحظورة أمامهما في رسالة احتقار، واستقذار،...
بلغنا أن بعض مربيات المنازل حين لا يبقى في الدار سواهن مع والدي الأسرة، والحفدة الصغار، يعلمن الصغار الدعاء بأسماء العورة على الجدين، وأحيانا يأمرنهم بالبول على سجاد مصلاهما، ويتطور الأمر بترويع الطفل، وترغيبه حتى يجري ويُحدث على رأس جدته..
تلك تربية مربيات المنازل عندما تخلت الأم عن دورها في التربية، والرعاية، والتوجيه..
تعود الأسرة متعبة بعد يوم شاق من العمل، وتمر في لباس العمل-وتلك رسالة بأن المكث لن يطول- تمر على الوالدين لتحية سريعة، فيرحمها الوالدان ويلحان عليها بالإسراع للراحة وتناول الطعام..ثم تخرج الزوجة في مشوار ليلي مفتوح، ويستقبل الزوج بعض أصدقائه في سمر يتأخر طويلا..ينام الوالدان المنهكان من رتابة الحياة، الفاقدان لبوصلة الزمن، وفي الصباح تمر بهما الأسرة في طريقها إلى العمل لإلقاء تحية صباحية مقتضبة، وهما يجاهدان للخروج من لحافهما السميك..وتبدأ الأسطوانة عزف المقطع الممل، الرتيب...قسوة الخادمة. ونزق الصغار..والفراغ القاتل...
تمضي الأيام، ويفقد الوالدان شهيتهما إلى الطعام، وشهيتهما إلى الحديث، وشهيتهما إلى المجالسة، ويثقلان، فتسمع عند كل حركة أنة، وعند كل اضجاع صرخة، يتثاءبان قبل وخلال كل حديث، ثم يفقدان الرغبة في مواصلة الحياة في محبسمها، في تلك الغرفة المعزولة، تحت ضوء ذلك المصباح الشاحب، ثم يكثران السؤال عن وقت الصلاة، وعن جهة القبلة، حتى للزوار الغرباء..
تمر الليالي بطيئة، سوداء، ويتناقص وزن الوالدين، وتمتد فترة نومهما ساعات طويلة..ثم في فترات الصحو العابر يكثران السؤال عن إخوتهم، وأصدقائهم، وبعض أقاربهم الذين ماتوا من زمن بعيد...
ثم تظهر الحالة القاسية، ويشتد فقدان الذاكرة، فلم يعودان قادرين على التعرف على أبنائهما، فيسألان كلما دخل عليهما واحد منهم: من أنت، ما اسمك؟ لقد نسيا كل شيء، وانمحى من ذاكرتيهما كل شيء...ثم تبدأ مرحلة الحفاظات، والمهدئات، والمنومات، والمشيهيات، والمقويات، لكن بعد فوات الأوان..
وفي تحول آخر من تدهور حالتهما النفسية. والصحية، يصبحان كلما رأيا داخلا إلى المنزل، قريبا كان أو غريبا، بكيا وتوسلا إليه أن يردهما إلى (لخيام) في مشهد مروع، مبك، مثير للشفقة..
عندما يشتد الحر في انواكشوط، ويبدأ فصل الخريف في الداخل، ويستفيد الأبناء التلاميذ والموظفون من عطلهم السنوية، يُمنح الوالدان العجوزان حرية مؤقتة، يخرجان بموجبها من محبسمها القسري، ليعودا أجسادا بلا أرواح، وعظاما بلا لحم، ورؤوسا بلا ذاكرات، لقد نسيا كل شيء، وغابا عن كل شيء، في الوقت الذي ما زال فيه أصدقاؤهما، ومن هم أكبر منهما سنا من الذين لم يبرحوا القرى في مواسم الهجرات، في صحة جيدة، يصلون الخمس في المساجد، ويحضرون مجالس الإخوان، ويصلون من حقه أن يوصل، ويقدمون نصح المجربين..ولا يبتلعون حفنات من الأقراص قبل الوجبات، وقبل النوم...
وتبدأ مرحلة عزلهما عن الحياة، وعن الزوار نظرا لوضعيتهما الصحية، والعقلية، ولأنهما أصبحا يتكلمان خارج السياق كالمجانين...
تنتهي فترة الحربة المؤقتة، وينقلان إلى انواكشوط كبقبة متاع البيت، الحشايا، والنمارق، والمغاسل، وأحواض تنظيف الأطفال، وتبدأ المرحلة النهائية، رحيل بلا عودة..فقد أصبحا ضعيفين لا يستطيعان الابتعاد عن مشافي العاصمة، ولا يستطيعان تحمل السفر، والشمس...ثم يموتان، ويحرمان من آخر أمانيهما، أن ينقلا إلى المقابر الأهلية ليدفنا مع آبائهما، وأقاربهما، وعشيرتهما..لكن بعض الأولاد يرفضون تنفيذ وصيتهما، متعللين بحجج فقهية ومشروعية نقل الميت، وتارة بالقول إن الميت لا ينتفع بجيرانه، وأن النقل مكلف وحق الأحياء مقدم على حق الأموات، وطورا بحجج عاطفية، وحب قرب الراحلين..
ويسرق باعة الحديد( الكولابه) شاهدي قبريهما، ثم تحيط بهما عشرات القبور في أسبوعهما الأول، فيتعذر على الأبناء تحديد مكان القبرين، لكثرة القبور، واختفاء الشواهد. وتنقطع الزيارة، ويبقيان سرا مبهما من أسرار ذلك العالم الرهيب...
وهنا فقط ينتهي مسار تعذيب الوالدين، والانقلاب على صلاحيتهما في السيادة على بيتهما المستقل، والحرية في اتخاذ قراراتهما، وحقهما في البقاء حيث ولدا، وعاشا كما كان آباؤهما يعيشون..