إذا كان عند الليبيين عمر المختار فعندنا بكار ولد اسويد أحمد.. هذا الأمير المجاهد الذي تستحق حياته فلما لا يقل قيمة وأهمية عن فلم عمر المختار.. ولقد سبق لي أن وضعت تصورا لمادة وسيناريو هذا الفلم الذي بإمكانه أن يلعب دورا كبيرا في التعريف بموريتانيا وتاريخها حيث أردت له ألا يكون مجرد تأريخ لهذا الأمير والمجاهد العظيم فقط بل نافذة لتقديم أوسع صورة ممكنة عن التاريخ الموريتاني، وأرجو أن يجد من السلطات أو الهيئات الخاصة من يهتم بالقيام بمثل هذا المشروع..
على كل حال يحز في نفسي لأننا بالأسف بلد بلا ذاكرة أن تطل علينا غدا ذكرى استشهاد هذا الزعيم دون أدنى تظاهرة أو لفتة لا من الدولة ولا من النخبة ولا من المجتمع..
وحتى لا يمر هذا الحدث دون أي تنويه أنشر هذه المساهمة التي كتبتها عنه تنويها وتخليدا وتذكرة:
معارك الأمير المجاهد بكار بن اسويد أحمد ضد الاستعمار:
تاريخها ومسارها/ الحسين بن محنض
أولا: شخصية الأمير بكار بن اسويد أحمد ومزاياه العسكرية والسياسية من خلال الشهادات التاريخية
حظيت شخصية الأمير بكار بن اسويد أحمد ومزاياه العسكرية والسياسية بكم هائل من الإشادات، لعل مثله لم يجتمع لغيره في هذه البلاد، سواء من أعدائه من الفرنسيين أو من معاصريه من العلماء والمؤرخين البيضان.
حيث قال عنه على سبيل المثال من أعدائه الفرنسيين آميلهات في كتابه "ابتيت اكرونيك دي إيدوعيش" AMILHAT PETITE CHRONIAUE DES ID OU AICH: «مثل عهد بكار ذروة قوة الإمارة، وبلغ بقبيلته أقصى قوتها، واستمر ملكه قريبا من 70 سنة، ومن شبه المؤكد أنه كان -لولا الفرنسيين- سيعيد زعامة لمتونة على البلاد.. وبعد أن فرض احترامه زرع الرعب في قلوب الأعداء.. عاش مدة طويلة، نحو مائة سنة.. وكان يفتخر في آخر حياته بأنه تعامل مع كل الأحكام الفرنسية من الويس فيليب إلى الذين بعده، وأنه هزم كل القبائل حتى تنبكتو، وهزم فيديرب. لقد قاد وحده سياسته، وضمن لها استمرارا ووحدة ممتازين، وبقي الرئيس غير المنازع إلى يوم وفاته.. سيطر على كل موريتانيا الشرقية إلى الحوض.. ثم خاض الحرب ضد أولاد الجعفرية في آخر القرن التاسع عشر [م]، وكانت هذه فترة توسعه الكبرى.. أرغمه مقدم الفرنسيين وتوسعهم السريع على ترك كل مشاريعه ليتفرغ للمقاومة، ومات وسلاحه في يده.. لقد كان ذكاء هذا الرجل فوق العادة وكذلك كانت مهارته السياسية وقيمته العسكرية، لقد كان ملكا حقيقيا متفوقا في هذا الجزء من الصحراء على جميع أنظاره، وكانت شخصيته القوية قد طبعت كل تطورات الشرق الموريتاني».
وقال عنه راندو روبير في كتابه "كرسي من الجزائر لدى الرجال الزرق" RANDAU ROBERT UN CORSE D’ALGERIE CHES LES HOMMES BLEUS : XAVIER COPPOLANI, LE PACIFICATEUR : «بكار فاجأته قوات الفرنسيين وهو بين خيميتين، فجعل يقاوم ورأسه مصوب باتجاه الأعداء، فما زالت لديه قدرة على إطلاق النار، مع أن يديه اللتين ترتجفان من الكبر تكادان تحملان المدفع، ثم سقط تحت وطأة إصابته بعدة طلقات نارية.. النهاية المأساوية لهذا الخصم القديم الذي يفتخر بأنه أرغم الفرنسيين على إعطائه الغرامة منذ مَلَكَ الويس فيليبس، وبأنه هزم فيديرب، وقاد جيشه إلى الانتصار في جميع المعارك التي خاضها ضد القبائل الرحل من المحيط إلى تنبكتو، لا بد أن تكون لها انعكاسات على موريتانيا..
إنه لا يمكننا أن نعتب على إيدوعيش لتصديهم لنا، لأنه لا يمكننا أن ننتظر من أسياد البلد أن يقدموا لنا بلدهم على طبق من ذهب، فالذين لا يستطيعون أن يدافعوا عن ممتلكاتهم لا يحق لهم أن يحتفظوا بها».
وقال عنه المفوض الاستعماري اكزافيي كبولاني في كتاب "موريتانيا الصحراوية من نفمبر 1903 إلى مايو 1904" لجنَفييف ديزيري فيلمينه GENEVIEVE DESIRE VULLEMIN MAURITANIE SAHARIENNE NOVEMBRE 1903 A MAI 1904 : «إن بكار كان يعتبر أميرا للمؤمنين.. وقد وطد الملك الذي ترك له أسلافه بقوة..» كما قال: «إن أبكاك والشراتيت كانوا أفضل تنظيما من الآخرين».
وقالت ديزيري فيلمينه عنه في كتابها "تاريخ موريتانيا من 1900 إلى 1975" GENEVIEVE DESIRE VULLEMIN HISTOIRE DE LA MAURITANIE DE 1900 A 1975: «إن الحرب برهنت على قوة بكار أمير تكانت».
وقال عنه القائد العسكري افرير جان في تقريره العسكري المعنون بـ"إقليم إيدوعيش" الموجه إلى والي المستعمرات الفرنسية: «بكار بن اسويد أحمد حكم 70 سنة، وفي نهاية القرن التاسع عشر كان هو أكبر شخصية في بلاد البيضان.. وهو أكثر أمراء البيضان ثباتا وقوة. وبغض النظر عن حروبه الكثيرة خارج إقليمه فقد كان حريصا على بسط العافية في إقليمه، ومن المؤكد أن الزوايا كانوا أسعد حالا في بلاده منهم في أي بلاد أخرى من بلاد البيضان..
كانت شخصية بكار فوق العادة، ذكاء فائق، سياسي محنك، ديبلوماسي، محارب، شجاع، ومقاتل محظوظ، قوة مجموعته ناجمة عن سياسته، مات وهو يحارب ميتة يستحقها زعيم وبطل مثله».
أما ما قاله عنه معاصروه من العلماء والمؤرخين البيضان فأكثر وأوسع، حيث وصفه مثلا العلامة المؤرخ بابه بن الشيخ سيديا الأبييري في كتابه عن "إمارتي إدوعيش ومشظوف" عند الحديث عن إمارته بأنه «أهل لها لعقله، وسياسته، وكرمه، وعزمه، وحزمه، وشجاعته، ورمايته».
ووصفه العلامة المؤرخ سيدي بن الزين العلوي في كتابه الموسوم بـ"كتاب النسب" بقوله: «ومن سيادته أنه إلى موته لم ينتفع بثلاثة أشياء: لم ينتفع بآمكبل، ولم ينتفع بمهر بنت له، ولم ينتفع بالذكر من نسل خيله، إنما يجعل الثلاثة للفقراء والمساكين. وقد بلغني والله تعالى أعلم أن أوقافه في سبيل الله قد بلغت مكة، وكان عابدا خائفا من ربه. يحكى عنه أنه تنعل بنعل جده محمد في مناقبه.. وقد قيل في مدحه من شعر الحسانية في حياته وبعد موته ما لا يمكن ضبطه».
وهكذا تتفق الشهادات بغض النظر عن مصادرها على أن شخصية الأمير بكار بن اسويد أحمد ومزاياه العسكرية والسياسية استثنائية، كما برهنت على ذلك إدارته المتميزة للسياسة في السلم، وللمعارك في الحرب.
ثانيا: معارك الأمير بكار بن اسويد أحمد
ضد الاستعمار: تاريخها ومسارها
قال النقيب گاستون دوفور في كتابه تاريخ العمليات العسكرية في موريتانيا (تعريب محمد المختار بن بيه): «لم يكن احتلال البراكنه ومال وگورگول، وهي مجال ظعن أولاد عبد الل وإيدوعيش يبدو سهلا، كما كان احتلال بلاد الترارزة، فقد جعل الزعيم المسن بكار بن اسويد أحمد من نفسه روح المقاومة، وأخذ يبث رسله إلى كل مكان داعيا إلى الحرب المقدسة، فجر إلى صفه أمير البراكنة أحمدو بن سيدي اعلي، وزعيم الشراتيت المختار».
بينما قال الرائد جيلييه في كتابه التوغل في موريتاني (تعريب محمدن بن حمينه): «عدل الأمير أحمدو بن سيدي اعلي عن الاتجاه السياسي للقبائل المجتمعة تحت سلطته، ووضع أقاليمه تحت حمايتها، ولكنه لم يكن يريد إلا معارضة تقدمنا، فانضم في هذا الهدف إلى أمير تكانت المسن بكار شيخ إيدوعيش المعروف بمواقفه المعارضة لفرنسا وقدراته الحربية. وقام هذا الأخير (بكار) الذي جعل من نفسه قلب المقاومة بإرسال رسل في كل مكان لحث المواطنين على التمرد».
وهكذا اتفق الأميران بكار وأحمدو في مؤتمر عقداه في كادل (بشكار) على التحالف من أجل إجهاض المشروع الاستعماري، فكان رجال الأمير بكار سندا للأمير أحمدو بن سيدي اعلي، في معركتي ألاك التي قام فيها الأمير أحمد ولد سيدي اعلي بمهاجمة حملة كبلاني صبيحة يوم (08/12/1903) وكانت قد وصلت إلى ألاك يوم 03/12، وشكار التي أعقبتها بعشرة أيام، وكانت عبارة عن هجوم انتقامي قاده النقيب شوفو ضد الأمير ولد سيدي اعلي، قبل أن يواجه الأمير بكار أو رجاله الفرنسيين مباشرة في معارك كثيرة
أهمها معركة ميت في 17 فبراير 1904 التي هاجمت فيها أعداد غفيرة من إيدوعيش وأولاد عبد الله بقيادة الأميرين بكار وأحمدو حامية الفرنسيين بقيادة النقيب گالان، وتم قتل 7 من أفرادها.
ومعركة مال في فبراير 1904 التي باغتت إيدوعيش فيها حامية المركز التي كان يقودها النقيب آربوگاست.
ومعركة كومال (أنشيش) بقيادة كبولاني ضد الأمير بكار، وفشل فيها كبلاني في إلحاق أي خسائر به.
ومعركة امبود الذي أقام فيه الفرنسيون مركزا لهم معركة في 17 يناير 1905 وقادها عثمان بن بكار في جمع من إيدوعيش ضد النقيب الفرنسي أربوكاست.
ومعركة دركل يوم 28 فبراير 1905، وكانت معركة مدوية قادها من الجانب الفرنسي "لَسْترْ دَرَيْ"، وتمثل خلاصتها في أن"دَرَيْ" لما وطد الأمن في معسكره يوم السادس والعشرين من فبراير 1905 في موضع البدر قرب تامورت النعاج قرر قيادة دورية اتجهت في اليوم الموالي مشرقة نحو درگل ليحمي بذلك ظهره من كتائب إدوعيش المقاومة؛ بحكم كون درگل أحد مداخل جبال تگانت المعروفة.
لم يأخذ "دَ رَيْ"، وهو يتجه نحو درگل، الإذن من القائد العام للحملة الفرنسية بموريتانيا كبولاني الذي كان قد وصل مشارف تگانت منذ منتصف فبراير 1905 وأقام بگصر البركه؛ وكان السبب الرئيس الذي دفع "دَ رَيْ" إلى التوجه نحو درگل أن قطعان أغنام قبيلة إدوعيش كانت في تلك الجهة ترعى مسارح تامورت النعاج ومراعيها الخصبة، ثم إن غلات الحبوب والزروع المحصنة في مخازن قرب درگل، على بعد أربعين كيلومتر من موضع البدر، قد أسالت لعاب "دَرَيْ"، فاستسهل الأمر واختار كتيبة من ثمانية وسبعين من خيرة جنوده (أربعين من البيظان والبقية من التكارير حسب فريرجان وقد ذكر آميلهات وراندو أن الكتيبة كانت من عشرين جنديا).
وفي يوم الثلاثاء 28 فبراير 1905 كان جنود "دَرَيْ" عند بئر درگل؛ وعلم الأمير بكار بالأمر، وكان نازلا عند آمزوزل على مرمى حجر من درگل. فلم يفاجئ الفرنسيين وجنودهم في الوقت الذي كانوا فيه منهمكين في جمع الغنائم ونهبها، إلا وجيش إيدوعيش الذي لم يكن في ذلك اليوم فيه غير فصيليهم اللذين من صميمهم أبكاك والشراتيت قد باغتهم. فأثار ظهور إدوعيش المباغت الهلع في صفوفهم، فلاذوا بالفرار تاركين من لم لم يستطع أن يفر منهم وقائدهم "دَرَيْ" عرضة لفوهات مدافع إيدوعيش.
واشتعلت المعركة والتحم الطرفان وفر من قدر على الفرار بعد ما قتل منهم 18 وقيل 13 قتيلا، وأصيب القائد "دَرَيْ" إصابة بليغة في أعلى ساقه قريبا من باطن ركبته، هم أن ينتحر بسببها لكن دليله حال بينه وبين ذلك.
وانجلت معركة درگل بعد اندحار الفرنسيين رغم تفوقهم الكبير في نوعية السلاح، وقد استعادت إيدوعيش ما نهب من غلاتها الزراعية كما غنموا الخيل والثيران والسلاح التي تركتها الكتيبة الفرنسية بساحة المعركة أثناء فرارها.
وفضلا عن هذه المعارك واجهت إيدوعيش الفرنسيين في معارك أخرى كمعركة علب البدر قرب انبيكه، ومعركة اتويزرزيت، ومعركة انتاكش، ومعركة تنشيبه التي وقعت في 8 مارس 1905. ثم معركة بوكادوم التي استشهد فيها الأمير المجاهد بكار بن اسويد أحمد. يقول افرير جان في مذكراته عن سبب هذه المعركة: «استدعاني الأمين العام [أي كبولاني] يوم 25 مارس 1905 داخل كوخ الحشيش والأخشاب الذي يتخذ منه مقرا نسميه نحن "مكتب" الأمين العام. وقدم لي عرضا عن حقيقة الوضع: مبينا أن "إيدوعيش" لم يبتعدوا بالقدر الذي يشاع، فقد شوهدوا بضواحي "كيفة" على سهل منبسط في قلب منطقة "اركيبه". وما زالوا يشكلون خطرا مع احتمال دخولهم تكانت عندما تتوغل بعثتنا نحو الشمال. وإذا نجحوا في ذلك فسوف يقوضون كل ما حققناه من انتصارات..».
وحدد "كبولاني" لافرير جان طريقا يسلكه للوصول إليهم، دون المخاطرة بالفرقة الموجودة تحت إمرته.
وحين وصل افرير جان في مهمته هذه فاتح إبريل 1905 إلى بوكادوم لم تكن مخيمات إيدوعيش على علم بمقدمه، كما لم تكن في مكان واحد بل كانت في نقاط متفرقة، تؤوي إحداها الحلتين الأميريتين حلة الأمير بكار وحلة الشراتيت، كما قال افرير جان في تقريره العسكري الموجه إلى الوالي الفرنسي، وتسنى لافرير جان بذلك أن يهاجم الأمير بكار على حين غرة، لكن الأمير خف إلى سلاحه مقارعا جيش الاحتلال حتى استشهد شهادة كان يتمناها، كما ذكر عنه بابه بن الشيخ سيديا في كتابه عن إمارتي إيدوعيش ومشظوف.
أما افرير جان فيختم حديثه حول استشهاد الأمير بكار وابتعاد إيدوعيش عن تكانت في تقريره العسكري بقوله:
«بوكادوم لم أجد فيه إلا الحلتين الأميريتين حلة الأمير بكار وحلة الشراتيت، فمجموعات إيدوعيش الأخرى ليست فيه، فباغتناهم.. الزعيم الذي نخشاه أكثر من أي زعيم آخر من البيضان مات، والقبيلة التي هي أشد وأشرس قبائل البيضان مقاومة لنا، والتي في ألاك 1903 ودركل 1905 كانت على وشك أن تهزمنا نهائيا أنزلناها من تكانت باتجاه أفله»..
وبعد المعركة دفن الأمير بكار في أرض قوم كان أيضا يتمنى أن يدفن بينهم، فتحققت له أمنيتاه أمنية الشهادة وأمنية الدفن معا، وذلك هنا برأس الفيل الذي يحمل في ثقافة البيضان من دلالات التعظيم والعلو نفس ما كان يتحلى به الأمير الشهيد رحمه الله تعالى.
الحسين بن محنض.