
البشام الإخباري /تحت عنوان العيس
ليس من يسير في درب المعرفة كمن يقف عند عتبتها، ولا من يلامسها لمامًا كمن يغوص في أعماقها حتى يستوي قلبه على نورها. وهكذا بدا لي محمد عبد الرحمن محمد الدنبجه كلما أمعنت النظر في مساره؛ رجلٌ لم يطرق بابًا من أبواب العلم إلا فتحه، ولم يجد سبيلًا من سبل التربية إلا سلكه، كأنما قد كُتب عليه أن يجعل من حياته كلّها خدمةً للفكر والتعليم.
نشأ بين دفاتر الدرس الأولى، فوجد فيها ما يأسر روحه ويستثير فضوله. ثم مضى في طلب العلم مضيَّ السائر الذي لا يلتفت خلفه؛ فانتقل من جامعة نواكشوط إلى جامعة محمد الخامس بالرباط، ثم إلى جامعة شيخ أنت جوب بداكار، حتى اجتمعت له خبرة الأدب وعمق الدراسات التربوية معًا، في مزيجٍ قلّ أن يجتمع في رجل واحد.
ولم يكن غريبًا، بعد هذا العمر من التحصيل، أن يعود إلى وطنه وهو يحمل في رأسه همًّا وفي قلبه رسالة. فبدأ أستاذًا للأدب العربي، يُدرّسه لا كما يدرّسه الموظف الذي يؤدي واجبه، بل كما يدرّسه العاشق الذي يرى في اللغة موسيقىً لا تنطفئ وفي البيان العربي بريقًا لا يخبو. ثم انتقل إلى التفتيش، فأصبح مشرفًا على تكوين المعلمين، يضع المناهج، ويقوم التجارب، ويهدي المربين إلى طرائق أدق وأنفع، لا يبتغي من ذلك إلا أن يستقيم أمر التعليم وأن ينهض أهله بما يليق بهم.
وتوالت عليه المسؤوليات كما تتوالى حلقات السلسلة؛ فكان مفتشًا مركزيًا في وزارة التهذيب الوطني، ثم مضى قُدمًا حتى بلغ منصب مستشار وزير التربية وإصلاح نظام التعليم، مكلفًا بالتكوين، ورئيسًا للمجلس العلمي لمعهد ترقية وتدريس اللغات الوطنية — وهي وظيفته الحالية التي يتولاها بعقلٍ هادئ، ورؤيةٍ واسعة، وصبرٍ يعرف كيف يداوي مواطن الخلل دون أن يعصف بما هو صالح وثابت.
ولم يكن نشاطه الإداري حاجزًا بينه وبين البحث والتأليف؛ فقد أنتج عددًا من الأعمال التي تشهد له بعمق النظر وحسن التذوق. فمن «لمّا يكتمل: تفسير آيات الأخلاق» إلى دراسته في القصة القرآنية من خلال سورتي يوسف وأصحاب الكهف، ومن كتابه في التشريع الإسلامي وثوابت التجديد ومتغيراته — وإن لم يُنشر بعد — إلى بحثه في نمو التصوف الإفريقي والتربية على التسامح: نموذج تيرنو ببكر ساليف. كما عكف على تحقيق نصوص تراثية نفيسة، مثل شرح نظم القاضي محمد يحيى بن محمد الدنبجه في «حوال القلوب»، وشرح نظم العلامة قراي ولد أحمد يوره في «المهاجرين إلى الحبشة». وزاد على ذلك دراسةً اجتماعية بعنوان: «تمدرس البنات في موريتانيا قديمًا وحديثًا»، فضلًا عن مقالات ومحاضرات قدمها في المراكز البحثية.
وهذه الأعمال، على تباعد موضوعاتها، تتصل بخيط واحد: خيط باحثٍ يريد أن يقرّب المعرفة من الناس، وأن يفتح لهم أبواب التراث دون أن يثقلهم بالتعقيد، وأن يقدّم للتعليم فكرًا حيًّا يزاوج بين الأصالة والتحديث.
ثم خرج إلى الدنيا الواسعة، فحضر تكوينات في اليابان وغيرها، ينظر في تجارب الأمم، ويختبر مناهجها، ويعود إلى وطنه بما ينفعه، لا بما يثقله. فقد كان يؤمن أن النهضة لا تُستورد، وإنما تُفهم أولًا ثم تُكيَّف، وأن التعليم لا ينجح إلا إذا جمع بين حكمة القديم وجرأة الجديد.
ولعله، في جميع ذلك، يمثل ذاك النموذج الذي كان طه حسين يحبّه ويتغنّى بذكره: نموذج المثقف الذي لا يجعل العلم زينةً يفاخر بها، ولا سلّمًا يصعد به، بل رسالةً يحملها للناس، يسعى بها بينهم، ويرجو أن يجد صداها في وجدانهم.
ذلك هو محمد عبد الرحمن الدنبجه: رجلٌ جعل من التربية جسرًا إلى المستقبل، ومن اللغات جسرًا إلى الوحدة، ومن المعرفة سعيًا لا يعرف التوقف.
من صفحة الوزير السابق المختار ولد داهي
.gif)


