بعد 55 سنة من الاستقلال ، مازالت الدولة الموريتانية تمارس الزراعة خارج نطاق العلم ، وهو ما يمثل أحد جوانب الإخفاق التنموي الأكثر إيلاما ، والذي يهدد مستقبل بلادنا التي يصل مستوى الفقر في وسطها الريفي إلى 59,4 % حسب مسح رسمي أجري سنة 2008. هذا في الوقت الذي تحتكر فيه صفوة مخملية ، تعيش على النهب ، ولا يعرف الشبع إلى بطونها سبيلا ، نحو 90 % من ثروة البلاد. فأي صاعق أسرع تفجيرا من هذا ؟ أليس منا رجل رشيد ، يدعو إلى حوار تنموي ، يقوم الأخطاء الكارثية للجاننا العسكرية والمدنية ، التي ظلت تقترض لتستورد مواد استهلاكية ، بدلا من بناء قاعدة إنتاجية قوية ؟
من ذا يصدق أن موريتانيا ، تتوغل وسط العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين ، وهي تمارس الزراعة ، في جميع مناطها المطرية ، من دون حراثة ، ومن دون أي تسميد ؟
ومن ذا يصدق أن جميع البذور المداولة ، من جميع المحاصيل، في هذه الزراعة ، مجهولة التراكيب الوراثية ، إذ لم يعرف البحث الزراعي إليها سبيلا ؟ أليست هذه بالضبط ، هي الطريقة التي كان يزرع بها الهنود الحمر ، في حضارة المايا قبل 2500 سنة ؟ أليس تردي خصوبة الأرض نتيجة هذه الممارسات الزراعية القديمة ، هو الذي أدى إلى انهيار هذه الحضارة ، التي هي أرقى الحضارات الأمريكية القديمة ؟ بل أليست المجاعة هي التي أهلكت هؤلاء القوم ، بسبب أساليبهم الزراعية البدائية ، كما تقول الأبحاث التي أجريت على بقايا العظام البشرية ، في مقابرهم القديمة ؟ أم على قلوب أقفالها ؟
إن موريتانيا التي تمتلك أكثر من نصف مليون هكتار من الأراضي العالية الخصوبة ، لا تستغل من هذه المساحة ، بطريقة << حديثة >> إلا نحو 20.000 هكتار تزرع أرزا . وحتى هذه الزراعة << الحديثة >> مجازا مازالت شبيهة بالطريقة التي كان فراعنة مصر يزرعون بها الأرز . فهي تتم في أراضي غير مستصلحة غالبا ، وبدون دورة زراعية ، كما أنها تتم في الغالب بدون بذور معتمدة ، والمعتمد منها لا يطابق المواصفات الفنية للبذور . أما المبيدات المستخدمة لمكافحة الأعشاب فلا تتجاوز نحو 5 لترات للهكتار ، حسب السياسة العريقة لوزارة الزراعة ، وهو ما لا تقره أية توصيات فنية على وجه الأرض ، إذ إن هذه الكمية لا تتجاوز نصف المطلوب ، حسب توصيات الشركات المنتجة نفسها ، ومختلف المراكز البحثية .
وآخر مظاهر التنكر للعلم ، بيع سونمكس هذا العام لمبيدات منتهية الصلاحية ، اضطر المزارعون إلى استخدامها في الحملة الحالية ، وهو ما يعد أحد مظاهر الاستهتار الذي عودتنا عليه الإدارة التجارية لسونمكس ، في غياب تام لأية محاسبة حكومية .
وهذه التوليفة من الممارسات الزراعية الجاهلة ، هي التي جعلت متوسط إنتاج الهكتار في موريتانيا نحو 4 أطنان، مقابل نحو 14 طنا في تيلندا وافيتنام ، ونحو 7 أطنان في السنغال التي يهدف رئيسها ، إلى الوصول به إلى 10 أطنان في المستقبل القريب .
و الهدر في موارد المياه ، لا يقل عن الهدر في الأراضي الزراعية .فموريتانيا ، بسبب تخلفها الزراعي، لا تستخدم إلا نحو 8% من مواردها من المياه ، واغلب هذه النسبة مستغلة للأغراض المنزلية ، حسب إحصائيات قديمة نسبيا .
ومن أصل 22.000.000.000 متر مكعب من المياه ، يجود بها النهر سنويا ، في المواسم الجيدة ، تمر 11.000.000.000 لتنتحر غيظا في الميط الأطلسي ، والباقي تستغل أغلبيته الساحقة الجارة الصاعدة السنغال ، التي عرفت في عهد ماكي صل من أين تؤكل الكتف الزراعية ، فضاعفت مساحاتها الزراعية لتصل سنويا إلى نحو 130.000 هكتار من الأرز وحده، أنتجت أكثر من 980.000 طن، وتخطط للتحول قريبا للتصدير إلى الدول المجاورة ، وفي مقدمتها الجارة النائمة موريتانيا .هذا مع العلم أن الأرقام الرسمية في موريتانيا تتحدث عن زراعة مساحة لا تتجاوز 15.900 هكتار هذا الصيف ، في حين تجمع تقديرات المزارعين على أن المساحة الفعلية لا تتجاوز نصف هذا الرقم ..! ومن المتوقع أن تتراجع المساحة الزراعية أكثر في حملة الخريف المقبلة ، بسبب اكتفاء الحكومة بموقف المتفرج أمام انهيار أسعار الأرز الخام ، التي وصلت الآن إلى نحو 60.000 أوقية للطن ، وهو ما لا يزيد على نحو ثلثي تكلفة إنتاجه .
والكارثة الكبرى أن القانون الدولي، يعطي للسنغال حق الاحتفاظ بكل نسبة من المياه استخدمتها ، في توسعها الزراعي، لأنها عندئذ تعتبر << حقا مكتسبا >> حتى ولو استيقظت موريتانيا لا حقا ، وأرادت استغلال نصيبها << المصادر>> للتوسع الزراعي.
ويزيد من قتامة الوضع، أن بعض الدراسات تؤكد أن مياه نهر السنغال ، بسبب اضطراب مستويات الأمطار ، لا تكفي لري أكثر من 80% من الأراضي الزراعية على ضفتيه ..!
ونتيجة لهذا الهدر في ثروتنا من المياه والأراضي الزراعية ، تنفق موريتانيا سنويا 46.000.000.000 أوقية على استيراد القمح ، و 18.500.000.000 على استيراد الأرز و8.500.000.000 على استيراد الخضروات ، و 22.700.000.000 على استيراد الحليب و مشتقاته ، ناهيك عن السكر والزيوت، التي تعتبر الزراعة أساس إنتاجها .
وقد ولد هذا الهدر نسبة بطالة في البلاد ، تصل إلى نحو 35% . كما ولد عجزا في الميزان التجاري بلغ سنة 2012 نحو 1.300.000.000 دولار . فأين العلم من هدا؟ ولماذا نهدم بيوتنا بأيدينا ، وأيدي الموردين ؟ وهل العقل الموريتاني في إجازة مفتوحة ؟ وكيف نقبل أن تكون لدينا هذه الثروات المهدورة ، ونفقد في كل موسم جفاف ، ما بين ثلث ونصف ثروتنا الحيوانية، بسبب عدم إدخال زراعة الأعلاف الخضراء، إلى يومنا هذا ؟
وكيف نمتلك أكثر من 20.000.000 رأس من الحيوانات الزراعية ، وننفق سنويا كل هذه المبالغ الهائلة على استيراد الحليب و مشتقاته ؟
ولماذا لا تتجاوز نسبة كفاءة استغلالنا لثروتنا الحيوانية 10% في الإبل والبقر، و30% في الغنم ، كما يقول خبراء الجامعة العربية ؟ أليست الأعلاف الخضراء من أسهل الزراعات ، ولدينا فائض هائل من الأراضي الزراعية والمياه ؟
ألا تكشف كل هذه المعطيات المفزعة عن حاجتنا إلى حوار تنموي، ينقذ وضعنا الاقتصادي، أكثر من حاجتنا إلى حوار سياسي، يضع قواعد تقاسم كعكة السلطة في دولة مهددة، تقف على ساقين هزيلتين ؟
وكيف نفسر هذا المستوى الاستثنائي من الإخفاق ، في مسيرتنا التنموية، الذي يضعنا على عتبة نادي الدول الفاشلة ، التي ترجم فشلها إلى صراعات داخلية وحروب أهلية ؟
لم أجد ، بعد طول بحث للإجابة على هذا السؤال الأخير، إلا وزرين إليهما تعود المسؤولية في هذا التعثر الكارثي : أولهما أن الكفاءة ليست المعيار للوصول إلى المسؤولية في دولتنا، وثانيهما أن المحاسبة ليست المعيار للبقاء فيها.
لقد قلبنا المعايير في سلة التعيينات ، وجعلنا عاليها سافلها ، وعلى نفسها جنت براقش .
اللهم لا تهلكنا بذنوبنا، ولا بذنوب غيرنا، ولا بما فعل السفهاء منا..!
يحيى بن بـيـبه
رئيس رابطة التطوير والتنويع الزراعي
الايميل : [email protected]
الفيسبوك : يحي بن بيبه