لقد قطع رئيس الجمهورية السيد محمد ولد عبد العزيز الشك باليقين، وأعلن في حفل ختام الحوار الذي جمع أحزابا من الموالاة وبعض أحزاب المعارضة ونقابات ومنظمات مهنية، وجمع معتبر من الشخصيات المستقلة، أنه سيحترم الدستور، ولن يسعى إلى تجاوزه مهما كانت المبررات، وأنه بذلك يهدف إلى تعزيز واستمرار الديمقراطية في البلد لأهمية ذلك في نضج الشعوب، لقد وضع بخطابه المرتجل والمفاجئ حدا نهائيا لموضوع المأمورية الثالثة التي حاول المترنحون والباحثون عن مصالحهم الشخصية وبكل الوسائل أن يجعلوها حقيقة لا مراء فيها وأن يبتكروا لها من المبررات الكثير، و أن يختزلوا فيها أجندة الحوار الراهن بمجمله، من خلال إعطاء الإنطباع عبر العديد من التصاريح المعبر عنها أنها هي الهدف الرئيسي من كل ما يجرى في ورش قصر المؤتمرات، وكان للمعارضة نصيب إعلامي من تلك الدعاية تماما مثلما كان لبعض منتسبي الحزب الحاكم وشركائه من الأغلبية.
لقد حاول كل طرف بوسائله وماكينة دعايته إعطاء الانطباع بذلك وجعله أمرا واقعا ، لكن المشاركين من قوى معارضة ومستقلين كانوا لترويج تلك الأجندة بالمرصاد؛ عبر رفضهم لإضافة أي محور خارج ما تم الاتفاق عليه بين شركاء الحوار وخصوصا بين السياسيين وعدم قبولهم لمنطق المقايضة مابين السن المنصوص عليها في جدول الأعمال والمأمورية التي لم تكن منصوصة ولم يكن الحديث عنها في الحسبان .
لقد أدخل الإعلان الصريح والواضح والشجاع لرئيس الجمهورية البلاد في مرحلة انتقالية جديدة سيدونها جيل الحاضر ويذكرها جيل المستقبل وسيكون فيها رئيس الجمهورية السيد محمد ولد عبد العزيز أول رئيس عربي وإفريقى منتخب يعطى الانطلاقة الفعلية بتجسد مبدإ التداول السلمي على السلطة ويعلن رغم أغلبيته المريحة وإنجازاته الملموسة عن استعداده للحوار مع معارضيه، وأنه سيلتزم بالنتائج المتمخضة عن هذا الحوار؛ كل ذلك وهو لا يزال في منتصف مأموريته الثانية، إنه بهذه الخطوة يخرس أصواتا عديدة من داخل السلطة التي تحرك بعض أطرافها للتشويش على مجريات الحوار، وحتى تلك الأصوات المشاكسة من المعارضة المقاطعة التي حاولت بشتى الوسائل أن تجعل من الحوار الذي شاركت فيه قوى سياسية ومدنية وازنة مجرد فرصة لتمرير أجندة المأمورية، لكن الطرفان سيعرفان لاحقا من مجريات الختام أنهما كانا في واد والمتحاورون في واد سيسع الجميع .
إننا دخلنا مرحلة جديدة منذ إعلان نتائج الحوار حتى وإن تباينا في القبول ببعض نتائجه خصوصا تلك المرتبطة بموضوع الرموز الوطنية، نعم مرحلة جديدة من التعاطي السياسي تتطلب مزيدا من الوعي بأهميتها، خصوصا عند المنشغلين بالهم الوطني لا السياسوي، حيث لم يعد من المجدي الاستماع لأي تغريدة خارج سرب المرحلة الجديدة التي تتطلب سياسيين مستوعبين قادرين على القراءة الجيدة للواقع من حولهم دون جدال أو شيطنة أو شخصنة أو تصفية حساب، مرحلة لا مكان فيها لمنطق الأحكام المسبقة، مرحلة ينصف فيها كل طرف الآخر ويتعالى فيها السياسيون عن ثقافة الإلغاء والتخوين المتجذرة عقول الكثيرين منهم و تتطلب هذه المرحلة حسب وجهة نظري ما يلي:
أولا ـ على المعارضة:
-أن تغير خطابها وأساليبها ومفردات شعاراتها الماضوية وأن تتعاطى بشكل إيجابي مع نتائج الحوار، وأن تدرك أن موضوع التعبئة ضد المأمورية الثالثة أصبح من الماضي وأن أي تحرك في هذا الاتجاه بعد اليوم ليس له أي معنى سياسي ولا يخدم المعارضة في شيء وفيه الكثير من ضياع الجهود و في غير سياقه.
-أن تعد العدة سياسيا للدخول في الاستحقاقات القادمة التشريعية والرئاسية وأي مقاطعة لها هو بمثابة انتحار سياسي سيكون ثمنه كبيرا، وتجربة التسعينيات وما تلاها من تجارب هي خير مثال على ذلك.
-أن تبدأ قوى المعارضة فى لم شتات أفكارها وتقييم تجاربها وتحديد أولوياتها وقيمة ومصداقية مشاريعها السياسية.
- البحث عن شخصيات إجماعية قادرة على المنافسة في الاستحقاقات القادمة، وما بقى من المأمورية الراهنة يكفى للإعداد الجيد إن تطورت الأفكار و المدارك وخلصت النوايا وتم الابتعاد عن أي طرح خارج هذا السياق، فهناك مرحلة جديدة انطلقت ولها سياقاتها حتى ولو لم تشارك المعارضة التقليدية في صناعتها.
ثانيا ـ على الأغلبية:
ـ أن تعرف أنها تلقت درسا في السياسة وأن المشاريع السياسية ذات المصداقية يفترض فيها القابلية للإستمرار، وأنها لا تقام على مقاسات معينة وأن الفرز للقيادة يكون بمستوى مجهود التضحية، وأن السلطة ليست حالة مطلقة بل هي حالة متداولة؛ أحكم اليوم وأكون مستعدا لأن أعارض غدا وضمان ديمومة ذلك هو التراكم والحركية من داخل المؤسسة السياسية نفسها.
- أن تعطى معنى جديدا للسياسة يكون مرتبطا باستمرارية المشاريع والبرامج السياسية وقادرا على فرز القادة دون ربط ذلك بمن هم في هرم السلطة وان تبدأ من الآن في ممارسة السياسة بمفهومها التداولي وأن تعد العدة لنقلة جديدة في السياسة تمكنها من الاستمرارية في السلطة إن وفقت، وإن أخفقت تكون أول موالاة حاكمة تلعب دور المعارضة.
لقد كنت مشاركا مستقلا في هذا الحوار الذى لمست فيه الجدية والحزم والتنوع وحسن التنظيم واهتمام ومتابعة المشاركين عكس ما يروج له البعض لأغراض ذاتية محضة، واكتشفت فيه طاقات فكرية خلاقة ورجالات على مستوى التحدي وهنا أشيد وإن كانت ليست من عادتي بمنسق هذا الحوار رجل الدولة الكفء الوزير الأمين العام لرئاسة الجمهورية السيد مولاي ولد محمد الأغظف لمساهمته الكبيرة في نجاح الحوار وذلك راجع لرزانته وصبره وأخلاقه وهدوئه واستعداده للتعاطي مع الجميع.
...إنه حوار ناجح .. إنها مرحلة ننتظرها بكثير من الاهتمام ..شكرا لكم السيد الرئيس على هذه الخطوة التي لاشك ستزيد رصيدكم فينا وفى الشعب العربي والإفريقي وتفتح الباب لموريتانيا الجديدة.
محمد سالم ولد الداه
مدير المركز العربي الإفريقي للإعلام والتنمية