دعك من الإعلام الرسمي وعقمه الفكري وعبارته المسطحة الملساء وهراءاته التي ورثها عن نفسه، ما قاله الرئيس مساء العشرين من أكتوبر هو ببساطة، خطاب بطعم وداع ووداع بطعم حلم وحلم بطعم وطن...،
في خطبة وداعه الأخير، اختار سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله، الذي كان أول رئيس يودع الموريتانيين قبل أن يغادر، كاتبا كبيرا بحجم الخليل النحوي، لكي ينحت له كلمات دافئة بلا نهايات، تختصر أزمنتنا الغابرة وتلك التي تلوح في الأفق، لقد أراد الرجل أن تتحول كلماته الأخيرة إلى علامات محفورة في ذاكرة الموريتانيين وهو يودعهم،
أما الرئيس محمد ولد عبد العزيز فقد آمن دوما بأن غرائز الموريتانيين لا تدغدغها الخطب الراقية والمنمقة التي تشبه رسائل العشاق، بقدر ما تحركها "المواقف البطولية" التي تأخذ الناس إلى حدود النشوة،
لم يبحث الرجل عن كاتب بحجم الوداع كما فعل سلفه، أرادها خطبة شعبية ساخنة، يستعرض فيها عضلاته، يضحك، ينفعل ويغير ملامح وجهه ويغرق أتباعه في بحر من التصفيق متى شاء، ويرتدي بدلته العسكرية القديمة المخبأة في قبو القصر، حين يشاء،
في عام 1978، أرسلت موريتانيا أول رئيس لها إلى ما وراء النسيان، سجن الخوبة سيئ الصيت في مدينة ولاته، لن يبقى لذلك الرجل الطيب الذي كان يحمل لقب "أبو الأمة"، سوى حارس عسكري برتبة عريف، كان يرد له تحية الصباح ويخاطبه تأدبا ب"سيدي الرئيس"،
ستفعلها موريتانيا مرة أخرى وترسل اثنين من رؤسائها إلى السجن، هما المصطفى ولد محمد السالك ومحمد خونه ولد هيداله وستعيد الكرة بعد ذلك وترسل رئيسا آخر إلى منفاه الاختياري، هو معاوية ولد سيد أحمد الطايع،
ولكن وبعد ثلاثة عقود من حادثة إرسال المختار ولد داداه إلى قلعة الخوبة، ستدرك موريتانيا أن عليها أن تخجل من نفسها وتتوقف عن هذا العبث وتعامل رؤساءها المنصرفين بطريقة لائقة، بعد هذا التاريخ الطويل من "البهدلة" وقلة الأدب،
كان الرئيس سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله محظوظا للغاية، ليس لأنه لم يشرب من كأس الانقلابات، فقد تجرعها ولما يكمل السنتين، بل لأن موريتانيا سمحت له بخطاب أخير يظهره بمظهر من يتنازل طواعية عن السلطة لمصلحة وطنه،
ستتحول ردهات قصر المؤتمرات، في تلك الأمسية المكتنزة بالأسئلة المحيرة، إلى ممر أخير يسلكه الرجل في هدوئه الصوفي العميق، إلى قريته الوادعة "لمدن"، دون حاجة إلى أن نضيف نحن إلى ذاكرتنا سجنا جديدا أو منفى آخر،
وسيبدأ منذ تلك اللحظة زمن الممرات الأخيرة الهادئة، التي ستمنح رؤساءنا المغادرين، فرصة خروج محترم من السلطة دون صخب أو رخص،
ما قام به ولد عبد العزيز مساء العشرين من أكتوبر، هو استكشاف تلك الممرات الأخيرة، خطبة وداع مبكرة أو سابقة لأوانها، أراد الرجل من ورائها أن يجرب الممرات الهادئة قبل أن يحين وقتها، هو الذي لا يريد أن تكون خطبته الأخيرة منة من أحد، كما حصل مع سيدي ولد الشيخ عبد الله ، عندما منحها له الرفاق كعربون صداقة أخير، قبل أن يتخلوا عنه في دكار.
سيذكر الموريتانيون عام 2016، باعتباره عام قصر المؤتمرات، الذي سرق الأضواء من كل الأماكن الأخرى، بعد حوار الأسابيع الثلاثة ووأد مؤامرة المأمورية الثالثة وصورة القائد وهو يغسل أدران أتباعه وينقذهم من غرائزهم ويتدرب على المسودة الأولى لخطبة الوداع ويستكشف الممرات الأخيرة التي أصبحت سالكة،
أما السؤال: هل سيتحول المكان إلى مزار وطني؟ فتلك حكاية أخرى سنرويها في وقتها.