لم تبق موريتانيا بلد الشِّعْر والشُّعراء على الرّغم من أنّ الشّعر مازال سيّد الأجناس الأدبيّة فيها. ذلك أنّ رياح الأجناس الأدبيّة الحديثة، وخصوصاً الرّواية، بدأت تهبّ، فتضرب الجدران الصَّلدة للشّعر التّقليديّ،
وتكاد تقف إلى جانبه في أثناء التّعبير عن المجتمع الموريتانيّ الآخذ بحُجَز الحداثة. هذا ما فعله الرّوائيّون الموريتانيّون: محمّد ولد تتّا في (أولاد أمّ هانئ)، ومحمّد ولد أحظانا في (هجرة الظّلال)، وماء العينين بن الشّيبة في (أحمد الوادي)، ومباركة بنت البراء في (العبور إلى الجسر الآخر)، وأخيراً، وليس آخراً، محمّد ولد محمّد سالم في (دحّان). ولعلّ هذا الأمر يسمح لي بالقول إنّ مَنْ يرغب في تذوُّق النّكهة الرّوائيّة الموريتانيّة فلْيقرأ ما كتبه هؤلاء الرّوائيّون والرّوائيّات، فهم وحدَهم القادرون على أن يُقدِّموا له المجتمع الموريتانيّ من وجهة نظر فنّيّة. وسأكتفي هنا بالحديث عن رواية موريتانيّة جديدة، هي رواية (دحّان) لمحمّد ولد محمّد سالم، وهي رابع رواياته بعد: أشياء من عالم قديم، ذاكرة الرمل، دروب عبد البركة.
مزجتْ رواية (دحّان) مزجاً فنّيّاً ماتعاً بين شخصيّة عبد الرّحمن الملقَّب بدحّان، والشَّريحة الدُّنيا في مجتمع نواكشوط. فدحَّان ابن هذه الشّريحة الفقيرة التي تسكن أطراف نواكشوط في بيوت قصديريّة وخشبيّة، لكنّه ابن ذكي طموح راغب في تغيير واقع الفقر الذي يعيش فيه بوساطة العلم والدّراسة العليا خارج بلاده. بيد أنّه كان يصطدم كلَّ مرّةٍ بعائق يحول دون تحقيق هذا الحلم. فأستاذ النّظم الزّلزاليّة حجب عنه المرتبة الأولى في سنته الجامعيّة الأخيرة، ومنحها لغيره، فصُدِم وكاد يفقد صوابه لخسارته منحة الدّراسة العليا التي ينالها صاحب هذه المرتبة. وعُيِّن في مصلحة التّنقيب، لكنّه فُصِل منها لعدم موافقته على تزوير المستندات. والتحق بدورة لتعلُّم اللّغة الانكليزيّة، ووصل إلى المرحلة الثّالثة والأخيرة فيها بتفوُّق، ووعده المدير بتوصية من الأستاذة الأمريكيّة هيلين بمنحة دراسيّة، لكنّ أحداث الحادي عشر من سبتمبر قضت على الحلم الذي وعدته هيلين به، فصُدِم أيضاً وفقد صوابه. كما عمل مع أخيه عليّ في بيع الخضار والفواكه في السوق، وكاد يستمرّ في هذا العمل لولا اكتشافه الرّشوة التي ينالها (مسؤول مشتريات جسور الخير لكفالة الأيتام)، ورَفْضه دَفْعَ هذه الرّشوة، وتخلّيه عن العمل مع أخيه، على الرّغم من بوادر النّجاح التي تراءت له. أخيراً توحي الرّواية بانتهاء أزمات دحّان. فقد التقى (مريم)، فتقاربا وتصارحا ومالا إلى بعضهما بعضاً، وفي الوقت نفسه اتّصل به صديقه الصّدوق سليمان، وطلب منه أن يأتي بأوراقه إلى الشّركة الوطنيّة للصّناعة والمناجم التي ترغب في إنسان يحمل صفاته؛ لإيفاده إلى ألمانيا ستّة أشهر للتّدرُّب والعودة إليها خبيراً.
تلك رحلة الفقير الشّقيّ الذّكيّ دحّان من الجامعة إلى عثرات الحياة وعقباتها وإخفاقاتها. ومن خلال هذه العوائق يطالع القارئ عادات الموريتانيّين الفقراء في الطّعام والشّراب والعلاقات الاجتماعيّة والإنسانيّة، وتقاليدهم في اللّباس والعمل والزّواج، وآمالهم وطموحاتهم في الحياة، بحيث يبدو المزج بين شخصيّة دحّان ومجتمع نواكشوط نوعاً من التّفاعل الرّوائيّ بينهما. ومن المفيد أن يلاحظ قارئ هذه الرّواية الضّوء الرّوائيّ المسلَّط على أطراف نواكشوط، الكاشف عن أحيائها الفقيرة، القصديريّة والخشبيّة، وما تضمّه من معاناة، وما تملكه من كبرياء، وما يطيف بها من قرى وصحراء، وما تتلقّاه من ثقافة تقليديّة، وما يهبّ عليها من نسمات حديثة، وما يعتمل فيها من فساد ورشوة وانكسار أحلام... وباختصار فقد نجح محمّد ولد محمّد سالم في إحياء المهمَّشين من خلال إبداعه شخصيّة عبد الرّحمن (دحّان)، وإحيائه طبيعة المكان الذي يعيش فيه المهمَّشون، ثمّ مزجه بين الشّخصيّة والمكان في مدوَّنة سرديّة ماتعة.
رواية (دحّان) رواية جميلة، لكنّ قدراً غير قليل من جمالها عائد إلى قدرة محمّد ولد محمّد سالم على إدارة السّرد بضمير الغائب، وعلى تطعيمه ببعض السّرد الذّاتيّ بضمير المتكلِّم (كاسترو، مثلاً)، وببعض ضمير المخاطب (الهجرة، مثلاً)، دون أن يتنازل عن اللّعب الفنّيّ بالحكاية الرّوائيّة. ذلك أنّ رواية (دحّان) سردت حكاية دحّان وحدَه، لكنّ محمّد ولد محمّد سالم لم يُقدِّم حوادث هذه الحكاية تقديماً متسلسلاً، بحسب الحبكة التّاريخيّة، إنّما راح يتلاعب بالحوادث تقديماً وتأخيراً، بغية توفير التّشويق القادر على الإمساك بتلابيب القارئ حتّى نهاية الرّواية. ومن خلال هذا التّقديم والتّأخير قدَّم لنا صوراً لطفولة دحّان في أثناء شبابه، وصوراً له في أثناء مراهقته، وتعليقات على الحوادث بعد وقوعها، فضلاً عن أحوال أمّه وأبيه وأخواته وإخوته في أماكن مختلفة من الرّواية.
صحيح أنّ هناك حاجة إلى تكثيف بعض الحوادث، وتمين صلة بعضها الآخر بالحكاية الرّوائيّة. وصحيح، أيضاً، أنّ هناك حاجة إلى التّدقيق في تعليل جوانب من شخصيّة دحّان، وخصوصاً الحاجة إلى تعليل ترجُّحه بين الغضب المصاحب لردود أفعاله (موقفه من هيلين حين سمّته: كاسترو، وموقفه من كريستوفر بعد إعلامه بنبأ توقُّف دورة اللّغة، مثلاً)، وبين هدوئه وعصاميّته واستقامته ونزاهته، إذ ليس هناك تعليل روائيّ مقنع كاف لجمعه بين الغضب والعصاميّة والنّزاهة. أقول: صحيح أنّ هناك حاجة فنّيّة إلى تأمُّل جوانب من الحوادث والشّخصيّة الرّوائيّة، بغية تمتين الصّلة بين الشّخصيّة وحوادث الرّواية، إلا أنّ الصّحيح أيضاً هو أنّ الفعل الرّوائيّ بقي مقبولاً في حدود سيرة دحّان الفقير في مكان روائيّ فقير.
ثمّ إنّ اللافت للنّظر في رواية (دحّان) هو اللّغة الرّوائيّة الواضحة القادرة على تصوير المواقف الخارجيّة وانعكاساتها النّفسيّة. فشخصيّة دحّان تنتقل من مكان إلى آخر طوال الرّواية. وقد رافقت اللّغةُ هذا الانتقالَ، فصوَّرت الأمكنة الفرعيّة، وهي أمكنة مفتوحة (ساحات، شوارع)، ومغلقة (أكواخ)، دون أن تتخلّى عن رصد دخيلة دحّان وعلاقاته بصديقه سليمان، وبأسرته: أمّه النّاه، وأبيه وأختيه سكينة وزينب وأخيه علي. بيد أنّ سلاسة اللّغة الرّوائيّة لم تحجب عن المتلقّي تركيز محمّد ولد محمّد سالم على دحّان وحدَه، وضَعْف تركيزه على أصدقائه وأسرته. وهذا ما جعل الرّواية كلّها رواية شخصيّة، نهضت بصراعاتها الدّاخليّة وخيبات واقعها وانكسار أحلامها، وبدت جميلة في أثناء ذلك. ثمّ إنّ الضّوء الرّوائيّ قادر على الاتّساع ليشمل الشّخصيّات الأخرى كلّها، وقادر في الوقت نفسه على تخصيص جانب من هذا الضّوء الرّوائيّ للشّخصيّات السّلبيّة (أستاذ النّظم الزّلزاليّة، مثلاً)، حتّى يبرز في الحكاية الرّوائيّة اختلافٌ وصراعٌ وقَدْرٌ آخر من التّشويق، وبعضٌ من طبيعة العلاقة بين الشّخصيّات المختلفة المتباينة، بدلاً من الاكتفاء بتصوير الشّخصيّات الإيجابيّة وحدَها.
أعتقد، في خواتيم الإشارة إلى اللّغة الرّوائيّة، أنّ هناك حاجة لغويّة فرعيّة لتوضيح بعض الألفاظ ذات الدّلالات المحلّيّة الموريتانيّة، كالبزان وبصام والأطاجين والزّريق والحرطاني، وغيرها من الألفاظ المحلّيّة التي يستطيع السّياق الرّوائيّ بوساطة الحيل اللّغويّة تقديم توضيح لها يجعل القارئ غير الموريتانيّ يفهمها، فيتّصل بدلالاتها على نحوٍ أكثر دقّة. وهي، في الحالات كلّها، ألفاظ قليلة، لا يعجز محمّد ولد محمّد سالم عن تقريبها من أفهام القرّاء؛ ليتذوَّقوا النّكهة الرّوائيّة الموريتانيّة.
• مجلة الإمارات الثقافية - العدد 50 - نوفمبر 2016