نعم هي فئة قليلة تحتفي على طريقة باذخة بالمولد النبوي الشريف في الملبس القشيب و ذبح الخراف السمان و التظاهر بعلامات اليسر في عرض السيارات الفارهة بجوار عربات الحمير و المارة من أمواج السائلين من كل شرائح و أعمار الفئات الضعيفة و المغلوبة على امرها، و استقدام الخدم بأعداد كبيرة من ساحات تجمع المهاجرين غير الشرعيين إلى البلد من دول غرب إفريقيا للتباهي بالقوة و بسط علاماتها في كثرة الحشم، و ثلة غالبة من الفقراء و المعدمين تحتفي بالمولد في الصلاة عليه و التبرك بيوم مقدمه لخلاص البشرية من ضلالات الجاهلية و ظلمها و قهرها و إعداد النفوس ليوم الحساب و الثواب و العقاب...
بلى إنها لوحة هذا اليوم بالأبيض و الأسود، بالفقر و الغنى، بالقوة و الضعف، بالظلم و الاستكانة. نعم إنها هي أيضا لوحة البلد في ثنائية:
- غنائه بثرواته المتنوعة في البر و البحر، أسماكا و نفطا و معادن و أراضي خصبة على ضفة نهر دافق معطاء و مواشي و واحات،
- و فقره بسوء الاستغلال والتسيير والتدبير لهذه الثروات الهائلة منذ الاستقلال و الحيف من خلال عدم توزيعها العادل على ساكنته التي لا تتجاوز الثلاثة ملايين من النسمات على خلفية الأجندة القبلية و العشائرية في عمومها و الأسرية الضيقة و الجهوية و الطبقية في خصوصياتها التقسيمية في استعصائها جميعها على التحول. و أما الذين اختيروا و استُؤثروا فاستُدعوا لإنعاش مهرجان "ودان" في دورية المدن القديمة فقد استَصحبوا للعيد في أحضانه طيفا ثلاثي التركيب للإنعاش و التمتع والإمتاع:
- الشعراء و المغنون ليعيد الأولون قصائد الماضي في تكرار ينم عن نضوب القرائح؛ قصائد أولى بها التدوين في الكتب و الكراس، و ليترنم المغنون على سلم تلاحينها التي لا تحتمل إلا أنغام الماضي و قد ولى زمانها و فيما لم تعد الآذان هي الآذان إذا تعالت لسماعها.
- الخطباء و الأدعياء و المؤرخون و الواعظون الذين يعيدون ذات النصوص الماضية من غير ما يعتريها التحديث و ليكررون سير الملاحم الأسطورية التي لو قام السلف الصالح من رقاده لتبرأ منها طرا.
- و الوارثون الواهمون لمجد يخصهم دون سواهم و لا يتقاسمون في تراثية مخطوطاته المهددة بالتلاشي من فرط الإهمال فضل ما كان من إشعاعه في دائرة تقادمه من دون الادعاء بتقديمه جديدا معلوما في ملحمة المعرفة الحديثة التي تجاوزت في عطائها و تنويرها و شموليتها كل التوقعات العقلية و التي تتقاسمها اليوم كل شعوب العالم و على نفس الدرجة من الأحقية و الاستمساك بها.
و يبقى المولد النبوي فوق كل الأحوال و التقلبات تلك الفسحة الحية من أنوار النبوءة الخاتمة و الإشعاع في النفوس الذي تهون معه مصائب الغبن و الظلم و التباين و ينبعث معها الأمل متجددا في كل منعطف كاملا و ينكفئ ظلام الحيف ليشرق فجر أنوار المساواة و العدل.. فأهلا به مولدا لخير خلق الله الذي أخرج بالدين الحق البرية من ظلمات الشرك و هيأ للخير في النفوس و في الآفاق. يقول أمير الشعراء بلا منازع و لو لم يشفع له لنيل هذا التتويج إلا قوله من الشعر الصادق الجميل:
وُلِدَ الهُدى فَالكائِناتُ ضِياء وَفَمُ الزَمانِ تَبَسُّمٌ وَثَناءُ
الروحُ وَالمَلَأُ المَلائِكُ حَولَهُ لِلدينِ وَالدُنيا بِهِ بُشَراءُ
وَالعَرشُ يَزهو وَالحَظيرَةُ تَزدَهي وَالمُنتَهى وَالسِدرَةُ العَصماءُ
وَحَديقَةُ الفُرقانِ ضاحِكَةُ الرُبا بِالتُرجُمانِ شَذِيَّةٌ غَنّاءُ
وَالوَحيُ يَقطُرُ سَلسَلًا مِن سَلسَلٍ اللَوحُ وَالقَلَمُ البَديعُ رُواءُ
نُظِمَت أَسامي الرُسلِ فَهيَ صَحيفَةٌ في اللَوحِ وَاسمُ مُحَمَّدٍ طُغَراءُ
اسمُ الجَلالَةِ في بَديعِ حُروفِهِ أَلِفٌ هُنالِكَ وَاسمُ طَهَ الباءُ
يا خَيرَ مَن جاءَ الوُجودَ تَحِيَّةً مِن مُرسَلينَ إِلى الهُدى بِكَ جاؤوا