مهما حاولتُ النسيان، إلا أنّ ذكريات تبقى محفورةً في أعماق قلبي، تُذهِبُني إلى عالم أتذكّرُ فيه لحظات استثنائة. ومع أنّي أملك ذكريات كثيرة، لا أستطيع أن أختار ما أتذكّر. فالذّكريات هي التي تفرضُ نفسها عليّ وقت تشاء. واليوم، أحسُّ بشيء يدفعني إلى أنْ أوردَ لكم ذكريات تعود إلى أيّام جامعة دكار بالسينغال. القصّة تجْمَعُني بصديقيْن عزيزيْن ساهما مساهمة كبيرة في صنع أمجاد وبطولات شباب مقطع لحجار... رَفَعوا ذِكرَهُ ومقامَهُ ودَوّنوهُ في سجلّ تاريخ الحركات والنضالات التحرّرية في موريتانيا كلّها؛ أحدهما موجودٌ معنا اليوم وأسأل الله العلي القدير أن يطيل في عمره، وهو الأخ عبد الله ولد اكّاهْ ولد كبد (ولد ادَّمِّ علمًا)؛ والثاني رَحَل عن دُنْيانا الفانيّة أسأل الله الغفور الرّحيم أن يتغمّده بواسع رحمته، وأنْ يُسكنه فسيح جنّاته. أجَلْ، رَحَل ولكنّه ترك لنا ماض مشترك عزيز، عطرٌ لا يُنسى، صَوْتٌ نتمنّاه، شوقٌ لا يبْرد؛ إنّه نقيب المحامين والفنّان العظيم، الأستاذ محمّد شينْ ولد محمّادو، رحمه الله.
أبدأ القصّة من روصو عام 1968-1969 عندما أعلن طلاب ثانوية روصو إضرابًا مفتوحًا عن الدّراسة تضامُناً مع زملائهم المضربين في ثانويّة لعيون، واحتجاجًا على اقتحام قوات الشرطة لحرمها والقبض على مجموعة من الطلاب بشكل عنيف. وكان ذلك التحرك هو الأقوى والأجمل والأكثر تنظيما في تاريخ التعليم الثانوي حتى ذلك الوقت. ارتقى الصديقان محمد شين وعبد الله ولد كبد إلى قيادة الإضراب منذ يومه الأول، وتميّزا بشجاعة وحماس وكفاءة وقدرات تنظيميّة هائلة فاجأت السلطات والتلاميذ معاً، وساعدت في نجاح الإضراب حيث توقّفت الدراسة تمامًا في الثانويّة؛ وقرّرت الإدارة اعتقالهما وأعضاء آخرين في القيادة. وبطبيعة الحال، قُوبِلَ قرار الاعتقال بالرّفض ولم يبْقَ من خيّار إلاّ الاختفاء والدخول في العمل السرّي... خرج الزعيمان من المدرسة وظلاّ يَنْتَقِلان من مخبأ إلى مخبأ والشرطة تبحث عنهما. وبما أنّ محمد شين أحد المشاهير المعروفين في روصو وفي كلّ مكان، كان لا بُدّ من أنْ يَنْسَحِبَ ورفيقه من البلد كلّه؛ فتقرّر ذهابهما إلى دكار لأسباب تتعلقُ بالسلامة والأمن من جهة، ومتابعة الدراسة من جهة أخرى.
وعِنْدئذ، بدأت حياة خطيرة، مُضنِيّة، مُثِيـرة، ودامت سنة كاملة ونصفا. غادَرَ عبد الله بعد أيام قليلة لأنّهُ كان يُحَضّرُ للبكلوريا في العام نفسه، ولأنّ إخفاءه عن أعيُن الشرطة كان أسهل. لذا، استطاع أنْ يتخفّى ويعْبُرَ النّهر ليلا من مكان بعيد في زورق صغير بمساعدة الأصدقاء، وتوجّه إلى "روصو سينغال" مشْيا على الأقدام في ليلة بالغة الصّعوبة. وعند مدخل المدينة، ابْتَسَمَ لهُ الحظ... فوَجَدَ رجلاً في الستّين من العمر، موريتاني الجنسيّة، وتبدو عليه مطاهر التديُّن والثّقة...جلس عبد الله، تنفّس الصُّعَداَء وتَنَهّدَ تَنَهُّدا ممْدُوداً بعُمق، ثمّ تناول عظما مشويّا... وخلد إلى النوم. وفي الصباح الباكر، استيقظ وأخذ تكسي باتجاه"اندر" ودكار.
أمّا محمد شين، فقد بَقى في روصو مختبئا عند سيّدة فاضلة اسمها "ياسين امْبودجْ" في حي "انجوربل". وكانت تؤمّنُ له المعاش وكلّ اللوازم الضرورية، وتقوم بالتسوق، و ترافقه في مواعيده السرية مع قادة الإضراب الجدد. كان رحمه الله يقول لي بأنّ أيام "ياسين" غير عاديّة، تمتزج فيها ساعات الحزن مع آفاق الفرح... أيام توتر مستمر، وإنهاك جسدي، و هلع يتجدد عند كلّ تحرّك أو صوت أو حضور مشبوه إلى قرب المخبأ السري. انقضت مدّة شهر تقريباً كانت كافيّة ليخرج محمد شين بلِحْـيَة رهيـبَة تَرَكَها تنمو لتغيير ملامِحَ وجهه... جاء وقت وداع الأم "ياسين" وأصدقاء الدرب الذين هم جزءٌ لا يتجزأ من حياة الشّاب القائد. قال لي أكثر من مرّة بأنّه لم يكن يتَخَيّلْ أيّامه دون "ادَّمِّ" ورفاقه، وبأنّ اسم الأم "ياسين امبودج" سيبقى محفورا بقلبه ما بقي حيّا...انتهت كلمات الوداع، وخرج القائد مستعينا بظلام الليل على متْنِ "صاريتْ" باتجاه قرية اسمها "كاراك" ومعه أحد التلاميذ المضربين مسؤول عن حراسته. ومن هناك، تمّ العُبور إلى الضفة الأخرى. عاد مرافقه إلى روصو، وواصل القائد رحلته مشيا على الأقدام حتى وجد بالصدفة "صريت" أخرى نقلتْهُ إلى مدينة"ريشار تول"، ومن ثمّ التكسي سهلة باتجاه دكار.
وهكذا، اجتمع شملنا في داكار. كنتُ أسكن الحيْ الجامعي [غرفة 276، مبنى أ] ولدي منحة من التعاون الفرنسي 22500 افرنك إفريقي، وهو ما بنتاهز 4500 أوقيّة. ولقد شكّل وصول الزعماء إلى الجامعة حدثا عظيما...فرحة عارمة، واستقبال رائع، وتضامن أخوي وتعاون سخي من جميع الإخوة والأصدقاء؛ ولكنّ الأمر كان يستوْجِبُ على مستوانا تعديلات جوْهريّة للتّأقلم مع الوضع الجديد؛ بادرنا إلى تغيير فراش الغرفة لتتسع، وتعاملنا مع "جيرَه" تصلنا من أسرة سينغاليّة في حي "واكام"، وما شاء الله سارت الأمور عاديّة جدّا، خاصّة بوجود الأخ الفاضل محمد عبد الرّحمن ولد صيبوط حفظه الله الذي كان حينئذ متزوجا وله شقة كبيرة. والتجار محمد عبد الله ولد اعلِ بيْنه والنّاجي ولد ابّوَه رحمه الله...وأذكرُ أنّني كنتُ في ذلك العهد أمرّ بمحلات تجارية لبيع الملابس للسلام على الأخوين أحمد جدّو ولد محم بوبّ ومحمد محمود ولد سيدي مولود ،حفظهما الله،
أول خطوة خطوناها كانت باتجاه حلّ مشكلة الدراسة. وبفضل الله ثمّ بما يتمتّع به من محبّة وقُرْبٍ من قلوب النّاس، حصل عبد الله على التسجيل كمترشح حر لشهادة البكلوريا دون عناء كبير. أمّا محمد شين، فوجد التسجيل في السنة الخامسة من التعليم الثانوي بعد بحث طويل وجهد كبير. وفي ختام السنة الدراسية، نال عبد الله بكلوريا رياضيات [A4] بأعلى نتيجة في المادّة الرّئسيّة ليُعطي الدلالة على أنّ تصدّره لزعامة النضال مردّه التفوق والذكاء والكفاءة...وكان معتمدا على نفسه، إذْ لم يُسمح له بالتسجيل في المدارس العموميّة السينغالية وما كان بوسعه التعامل مع مدرسة خصوصيّة...وكذلك فعل محمد شين، تجاوز بنجاح إلى السنة السادسة، ونجح في العام الموالي نجاحا باهرا في البكلوريا عند أوّل مشاركة...وبعد ذلك، واصل عبد الله دراساته العليا في جامعة دكار ( كليّة الشؤون الاقتصاديّة)، واستمرّ دورُه المتميّز في الحركة الطلابيّة، وغادر زميله وصنوه في الريادة والقيادة محمد شين إلى تونس ليدرس القانون.
وفي حلقة قادمة بحول الله، سأتناول بعض الطرائف والنّكت التي تعود بها الذاكرة... وفي مقدمتها ليلة كنّا في حالة من [الدّفْرَه] ضاغطة، وبحاجة مُلحّة إلى نقود. عادة، كنّا في الحالات الممثالة نمرُّ بالإخوة عبد الله ولد اعلِ بيْنَه والنّاجِي ولد ابَّوَه رحمه الله، ومحمد عالي ولد المختار حفظه الله في سوق البطوار شارع1/6، ونأخذ ما نريد. ولكنّنا مع مرور الزمن، صرنا نستحي من التوجه إليهم... وفي ليلة من ليالي "الدّفْرَه"، عقدنا جلسة تشاور وقال قائلٌ منّا: لماذا لا نُفكّر في تنظيم أمسيّة غنائة في مدخل "بكين" حيث تتواجد الجالية بكثرة؟ نحن فرقة لامعة! أخذنا الاقتراح على محمل الجد وصادقنا عليه باعتبار أنّنا بالفعل نشكّل فرقة متكاملة قادرَة على اجتذاب الجمهور! محمد شين يعزف على الكتار ويغنّي، وفلان يشدّ على السّيوَه، وفلان يقولُ الكيفان ويرقُص على "الأوزان"، وفلان يبيع التذاكر، وجمهور الطلاب يصفق و يشجع، إلخ،،، وكانت النتيجة فوق كلّ التوقعات! ههه،،،
[يتواصل بشي من التفصيل، إن شاء اللهُ]