صعق الكثيرون للإبعاد المفاجيء لمولاي ولد محمد لغظف، رجل النظام الوديع، الذي واكبه في عسره و يسره.. في رخاءه و شدته.. فكان المنتدب دائما للتهدئة و للمواقف الدبلوماسية..
حقق ولد محمد لغظف ما يكاد يكون معجزة، حيث عمل طوال هذه السنوات في إدارة ولد عبد العزيز دون أن يتلطخ بأدرانها، أو أن يصيبه بعض ما أصاب يحي ولد حدمين من سوء سمعة.. فقد ظل مرضيّاً عنه حتى لدى أوساط المعارضة الراديكالية، فقليلة هي المواقف و التصريحات التي تؤخذ عليه.. حتى أنه يتم اعتباره في كواليسها كف الرئيس محمد ولد عبد العزيز التي يُلبسها قفاز حرير..
فلماذا يتخلى إذن عن قبضته الناعمة في وقت قد يكون أحوج فيه إلى السهولة و اليسر..؟!
رغم أنه يمكن أن يوصف خروج ولد محمد لغظف من الحكومة بـ”المفاجئة” إلا أن قد سبقته إرهاصات و مقدمات، ابتدأت بإقالته من الوزارة الأولى، بشكل لم يخطر على بال، حيث شكّل الحكومة بمعية ولد عبد العزيز ليفاجئه طالباً منه اقتراح وزير أول لها، و بعد فترة لم تطل كثيراً عاد إليها من خلال الأمانة العامة لرئاسة الجمهورية، حيث تم تكليفه بملف “الحوار الشامل”، الذي أخفق في جذب المعارضة الجادة إليه..
ظل ولد محمد لغظف يتلقى الضربات تلو الأخرى من طرف خصمه اللجوج يحي ولد حدمين، الذي يتقن المؤامرات و الطبخات السرية و اللعب على الحبال، و هي المواهب التي حُرم منها ولد محمد لغظف، الذي لم يتعلم من تجارب الحياة أنه لا يمكن إرضاء الجميع..
لم يستطع جحر الثعابين الذي دخله ولد محمد لغظف أن يغيّر من طبعه المسالم، و لا أن ينبت له أنياباً و مخالب، فكانت كل مواقفه تتسم بالمرونة و الهدوء. ففي اجتماع عقدته خلية أزمة تم تشكيلها بعد إسقاط الشيوخ للتعديلات الدستورية، هدفها تحديد الخيارات المتاحة لتمريرها، كان موقف مولاي أنه “ما دام الشيوخ قد أسقطوا التعديلات، و ذلك من حقهم، فالرأي أن يتم تجديد الشيوخ كما يقتضيه الدستور، ثم تقديم تعديلات أخرى لمن ينتخبون مجدداً لمجلس الشيوخ”.. و هو رأي لمن يرُق كثيراً لضبع القصر الأزرق.
و هكذا أيضا تقول المصادر إن اللجنة المستقلة للانتخابات عرضت على الرئاسة في تقرير مكتوب، العراقيل و المشاكل التي تكتنف تنظيم الاستفتاء، من الناحية المادية و اللوجستية، فثارت ثائرة ولد عبد العزيز، الذي قال إنه لا شك أن “اللُّجَيْنَة” تعمل مع المعارضة، فما وضعته أمامهم من العراقيل عجزت عنه المعارضة نفسها”.. فما كان من ولد محمد لغظف إلا أن أخذ التقرير على محمل الجدّ، و دافع عنه.. فلم يرق ذلك أيضا للجنرال..!
بعدها، رفض مولاي ولد محمد لغظف مرافقة ولد حدمين في جولة للمناطق الشرقية، و تذرع بسفر ملح لزيارة بناته في بلجيكا، غير أن ولد حدمين الذي لا يريد تفويت فرصة اصطحاب ولد محمد لغظف في جولة إلى الشرق، يكون فيها عضواً في وفده، و مؤتمراً بأوامره، انتظر على لفح جمر عودة مولاي.. غير أن مولاي كرّر رفضه المشاركة في مهمة جس نبض الموريتانيين بمأمورية ثالثة.. ليقيله ولد عبد العزيز ساخطاً عليه..
هكذا تقول الروايات.. و لكن تُرى هل الأمور على ظواهرها، أم أن وراء الأكمة ما وراءها..
هل طبيعة مولاي ولد محمد لغظف تسعفه على مخالفة أوامر رئيس يركب دماغه الأهوج في كل صغيرة و كبيرة.؟.. و إذا كان لولد محمد لغظف أن يخالف الرئيس فما سر احتفاظه بالقرب منه، في وقت أُبعد فيه من بلاطه كل من جربوا أن يهزوا رؤوسهم عرضاً.؟!.. ثم، ما الذي يدفع ولد عبد العزيز لأن يحط ولد محمد لغظف في هذا الموقف السمج، رغم ما تؤكده القرائن من احترامه له.
و إذا كان رفض مولاي مرافقة ولد حدمين في زيارته الرعناء هو سبب إقالة ولد محمد لغظف، فلماذا لم يسرع ولد عبد العزيز بإقالته، فقد تعودنا منه ردات فعل مباشرة و متشنجة.. لماذا انتظر عودة ولد حدمين ليقوم بإقالة مولاي.؟!
قد يكون كل شيء على ظاهره، الجلي للعيان.. و قد يكون أيضا ولد عبد العزيز، الباحث عن مخرج آمن من حكم أمعن فيه إفساداً، قد عجم عيدانه فلم يجد ما يصلح منها للعب دور “ميدفيدف” غير ولد محمد لغظف، رجل ثقته الذي خبَره في ظروف قاسية فلم تكشف الأيام منه عن غير وفاء له و تعلق به، و الشخص الخلوق الذي يحتفظ عنه حتى معارضو النظام بانطباعات حميدة…
فـ “الخلاف المصطنع” بين عزيز و مولاي مجرد وسيلة إذن تجعل منه حصان طروادة يقتحم قلاع المعارضة و السياسيين المستقلين باعتباره مرشحاً للرئاسيات، من غير رجال الرئيس.. فقد غادر “الحظيرة” مغاضباً.. و بهذا يحدث ولد عبد العزيز قطيعة مع نظامه، و يضمن خروجاً ءامناً من السلطة، و ظهيراً لن يطعنه من الخلف..
هذا، مع ما سيخدم ولد محمد لغظف من انتماءه للشرق الموريتاني، حيث الكثافة البشرية، و التعطش لدورهم من التناوب على السلطة، و العلاقات الوطيدة بالغرب، و الدعم غير المعلن للعسكرين..
إنها مجرد قراءة في فنحان..
و قد تصدُق أحياناً ضاربة الودع..!
تقدمي