سألني أحد الأصدقاء قبل أيام، السؤال الذي تكرر مؤخراً في الفضاءات الافتراضية الموريتانية، عن السِّر في التوافد المكثف في السنوات الأخيرة لزوجات المسؤولين الموريتانين وبناتهم الحوامل ليضعوا مواليدهم في الولايات المتحدة، على الرغم من قربهم من تونس والمغرب وفرنسا، وفي غياب حاجة صحية لذلك. والجواب ببساطة، ومن خلال وجودي في منطقة من أمريكا هي الوجهة المفضلة لأغلب هذه العائلات الكريمة، أن الهدف هو الحصول على الجنسية الأمريكية للمواليد الجدد. فلم تبق هناك، حسب تقرير لمركز الهجرة للدراسات 2010، أي دولة أروبية تمنح الجنسية، بدون قيود، انطلاقاً من مكان الميلاد دون النظر لعلاقة الدم التي تربط المولود بالوطن. في حين لا تزال دول محدودة تعطي ذلك الحق، غالبيتها العظمى في القارة الآمريكية، وتأتي على رأسها الولايات المتحدة وكندا.
ويحاول الميسورون الموريتانيون الاستفادة من هذا الامتياز بشكل لافت، حتى إن العاصمة الأمريكية تستضيف حاليا إحدى بنات الرئيس الموريتاني لهذا الغرض، كما احتضنت العام الماضي نفس الأسرة الكريمة للهدف ذاته. ومن الواضح أن دواعي اختيار أمريكا ليست صحية خالصة، بسبب الانتظار والحرص على إكمال الإجراءات القانونية لحصول المواليد على جنسياتهم الأمريكية قبل العودة إلى موريتانيا.
ليس هناك عيب في هذا الأمر طبعاً، وهو شائع، لا يختص بالموريتانيين فحسب. بل هناك ما يعرف بسياحة الولادة Birth Tourism يقوم به كثيرون حول العالم، من أبرزهم الصينيون، لأسباب تتعلق بسياستهم الإنجابية المحلية. والحقيقة أن العالم بات مترابطاً بشكل كبير، كما أن الشعوب والدول التي أثرت في مسار العالم عبر التاريخ هي تلك التي تمتّعت بدرجة من الديناميكية. ولا تكاد تخلو الحكومات الحديثة لكثير من البلدان مِمن يحمل أكثر من جنسية واحدة. ويكفي أنه يوجد في بلدٍ قليل السكان كموريتانيا، من مزدوجي الجنسية، العديد ممن تقلدوا مناصب الإدارة والسّفارة والوزارة، بل ورئاسة الوزراء ورئاسة الدولة. فالوطنية ليست مرتبطة بوثيقة قانونية هنا أو هناك، والجنسية ليست مرادفة للوطنية ولا المواطنة.
يقول أهل الإدارة في موريتانيا بأن حكومة التكنوقراط، أيام السيد الزين ولد زيدان، ورّثت دراسات ومشاريع وطنية كبيرة، شكلت أهم الإنجازات التي بنت عليها الحكومة الموالية. ولكن ذلك لا يعني أنه ليس لنظام السيد محمد ولد عبد العزيز الفضل في تنفيذ بعض هذه المشاريع وتجسيدها على أرض الواقع. والحقيقة أن الإحصاء البيومتري الحالي إنجاز كبير وفي غاية الأهميّة، ولذلك ليست الانتقادات المسجلة هنا موجهة لأصل المشروع ولا إلى جدوائيته، وإنما إلى جوانب قصوره الأساسية: من مزاجية في التنفيذ واستغلال سياسي وعنصرية في بعض الأحيان..
أولا، لا يُفترض أن يكون في ازدواجية الجنسية في موريتانيا مشاكل كبيرة، مع سماح القانون الموريتاني بذلك. إلا أن اشتراط الرئيس محمد ولد عبد العزيز موافقته الشخصية عليها، كجزء من طبيعة حكمه المركزيّة وخدمة لرؤيته الديموغرافية والسياسية على ما يبدو، أفرغ ذلك القانون من محتواه، وعطّل إحصاء العديد من المواطنين الموريتانين، لأسباب منها البيروقراطي والتمييزي والمحسوبي. والغريب في الأمر، أن النظام الحاكم يشترط على الموريتانيين الحاصلين على جنسيات أخرى أن يُحصوا أولا كموريتانيين ثم يقدموا طلباً للسماح بازدواجية الجنسية! بعد أن يحصلوا على جميع وثائقهم الوطنية.
ولهذه الحالة ضحايا كثيرون، ممن لم يجدوا صلة مباشرة برأس النظام أو بدائرة نفوذه الضيقة. وأعرف أحد الشباب الموريتانيين البارزين الذين سلخوا أعمارهم في موريتانيا؛ فيها وُلد ودرس، وفيها عاش جلّ حياته.. سافر إلى آلمانيا قصد الدراسة، وحصل منها على شهادة دكتوراه PhD في الرياضيات، وكان أستاذاً في جامعة بون، وقد تم تكريمه من قبل المستشارة الألمانية آنجيلا مركل لنجاحاته العلمية والعملية. ومع ذلك لمّا قرر العودة إلى وطنه لخدمته وللاستقرار فيه، لم يستطع الحصول على أية ورقة وطنية موريتانية، بسبب أنه أيام إقامته في الخارج حصل على جنسية ألمانية! وأمضى هناك ثمانية أشهر، لم يترك باباً إلا طرقه، إلى أن يئس واضطر إلى الهجرة من جديد. بعد أن عجز عن إيجاد من يتفهم وضعيته، ووضعية أمثاله، وارتباط حصولهم على أوراق بلدان إقامتهم بمشاريعهم الدراسية والعملية، وحقوقهم المدنية.. في الوقت الذي يتمتع فيه كبار المسؤولين الموريتانيين بجنسيات مزدوجة، وتركب عائلاتهم الأخطار والأسفار الشاقة من أجل حصول أبنائهم وأحفادهم على جنسيات أخرى، وامتيازات ليست لها مبررات آنية.
كما تعد المزاجية الإجرائية وعدم وجود قوانين واضحة، أو مسطرة قضائية للحكم في الوضعية المدنية للأفراد عند الضرورة، أبرز المشاكل التي يعاني منها المواطنون خلال الإحصاء. وكأي مشروع لم يُدرَس ولم تهيأ له الأرضية التنفيذية والتوعوية بشكل كاف، كثُرت حالات "اللا إمكان"، فاضطرّ البعض لاستخراج شهادات وفاة لآباء أحياء كي يتمكنوا من الحصول على وثيقة سفر، ولجأ آخرون إلى دول مجاورة لأسباب مشابهة، واستسلم البعض لحمل أوراق وطنية بأسماء وبيانات مغلوطة.. مكاتب على طول البلاد وعرضها لا تحتوي على أي وثيقة توضح الشروط أو تشرح الإجراءات. يتنقل بينها المواطن اليائس بحثا عن صاحب مزاج معتدل، أو ذي قلب رحيم. في طوابير ليلية ومشاهد مهينة وغير إنسانية، يُفرض فيها التخبُّط وقصور السياسات على النَّاس في شكل قوانين صارمة.
ينضاف إلى ذلك الاستغلال السياسي للحالة المدنية الجديدة من قبل الرئيس محمد ولد عبد العزيز ضد معارضيه. حيث لم يكتف بمنع امتيازات جوازات السفر الدبلوماسية عن أعضاء مجلس الشيوخ ووزراء الخارجية السابقين، بسبب مواقفهم السياسية، كما تقتضي القوانين والنظم المعمول بها في البلاد فحسب، وإنما قام بسحب جنسيات آخرين، بحرمانهم من الإحصاء أو من تجديد أوراقهم المدنية، بدون أي سند قضائي أو مبررات قانونية. فبقرار شفوي من عامل في أحد المكاتب بأن هذه "تعليمات عليا"، وفِي ظل غياب مؤسسة قضائية يمكن اللجوء إليها، يجد المواطن نفسه فجأة ضائع الحقوق والأملاك، هو وأفراد أسرته الذين لا ذنب لهم، سوى صلتهم بشخص لا يرضى عن آرائه سيد القصر.
ورغم كل هذه الاختلالات والانتهاكات المشار إليها آنفاً، تبقى أبرز مشاكل الإحصاء البيومتري الجديد هي إقصاء أعداد مهمة من المواطنين داخل فئة لكور بالذات. تارة بسبب الشروط التعجيزية، وتارة بتعلّة ازدواجية الجنسية، وأحيانا أخرى لغياب "وثائق تثبت الانتماء". مع ما هو معروف في موريتانيا من عدم اهتمام وحاجة مواطني الداخل للوثائق الوطنية في العقود الماضية، وكون التعداد السكّاني 1998 الذي اعتُمد كمرجعية للإحصاء الجديد حدث أيام وجود عشرات الآلاف من هذه الفئة مبعدين في كل من مالي والسينغال، ولاجئين حول العالم. حيث هُجّروا قبل ذلك في ظروف لا تسمح باصطحاب وثائق أو مستندات قانونية، إن وُجدت أصلا. وباتت هذه القضية أبرز الانتهاكات الحقوقية المرتبطة بهذا المشروع؛ حقوق ضائعة ومعاناة متعدية الأثر، وافتقار لأبسط الأسس القانونية والمنطقية. حيث تجد بعض أفراد الأسرة الواحدة يمتلكون وثائق وطنية بينما تم إقصاء آخرين. الآمر الذي أنتج فئة عريضة من "مواطنين بدون" Stateless، لأول مرة في تاريخ المنطقة.
وقد انتقدت جميع المنظمات الحقوقية، ذات المصداقية، الوطنية والدولية، الطابع التمييزي لهذا الإحصاء. وتحدث المرصد الموريتاني لحقوق الإنسان، في تقريره لعام 2016، عن وجود مواطنين موريتانيين، "أطفال وبالغين لا يمتلكون أوراقاً مدنية" وعن مدى تأثير ذلك على "حقوقهم في التعليم والتنقل والصحة وغيرها". وهي المسألة التي أدت إلى الاضطرابات الاجتماعية والسياسيّة التي صاحبت ميلاد حركة "لا تلمس جنسيتي"، أيام انطلاقة هذا الإحصاء، ودقّت إسفيناً جديداً في انسجام المجتمع ووحدته الوطنية.
أما حالة اليأس والمعاناة التي يعيشها بعض لاجئي هذه الفئة في الخارج فقد اختصرها أحد كبار السن، حين تدخّل، على هامش زيارةٍ للسفير الموريتاني الحالي في واشنطن، للجالية الموريتانية في ولاية أوهايو الأمريكية، وقال بألم ومرارة: إننا يئسنا على ما يبدو من الحصول على حقنا في أوراقنا الوطنية، ولكنني أطلب من السفارة الموريتانية أن تتعهد لي بأن تسمح لزملائي في أمريكا، بعد موتي، بنقل جثماني إلى أهلي، لأدفن في قريتي، وليتمكن أقاربي من زيارتي بعد أن عجزتُ عن ذلك على قيد الحياة.
عبد الله بيّان
رئيس المرصد الموريتاني لحقوق الإنسان
\