يبشر صاحب كتاب (تاريخ موجز للاقتصاد)، أولئك الذين سيقرءون كتابه، بأنهم أناس محظوظون للغاية، لأنهم يملكون فائضا من المال يكفي لشراء كتاب، بينما الكثيرون من حولهم في هذه الدنيا، يكافحون صباح مساء من أجل قوت يومهم،
شخصيا، لا أعتقد أن الذين حضروا الليلة الكبيرة للإسلاميين، في قصر المؤتمرات بنواكشوط الغربية، كانوا أقل حظا من قراء كتاب صاحبنا هذا:
فقد كانوا محظوظين جدا، حين أحسوا بدفء القضية، وهم على بعد خطوات قليلة من خالد مشعل وأسامة حمدان والآخرين، وكانوا محظوظين للغاية، حين شاهدوا بأم أعينهم الفرقاء السياسيين، المنكب بالمنكب والساق بالساق، كأنهم بنيان مرصوص، وكانوا محظوظين أكثر من ذلك كله، حين حضروا أول تمرين وطني للتناوب، بدون مسدسات ولا مدافع ولا خراطيم دبابات ولا أحذية عساكر،
هم الذين أريد لهم، أن يعتقدوا دائما، أن النزول الطوعي من قمة السلطة إلى سفحها، هو ضرب من الخيال، لا يعشش إلا في عقول الأغبياء،
قلب الإسلاميون كل القواعد رأسا على عقب ثم قلبوا كل الطاولات والكراسي في وجوهنا، فبدل أن يتمسك الأتباع بالزعيم، حدث العكس تماما هذه المرة، ففي حالة وطنية نادرة، ها هو الزعيم وأتباعه يتمسكون بالنصوص حلوها ومرها ويعضون عليها بالنواجذ رغم قساوتها أحيانا،
السياسة تشبه الحياة، لحظات انتصار ولحظات انكسار وأما أيامها فهي دول بين الناس،
جميل منصور، الذي بدأ حياته مناضلا إسلاميا مخلصا لا يشق له غبار، متحمس تارة ومتهور تارة أخرى، تحول في ذلك المساء البارد المكتنز بالآمال والأحلام، إلى سياسي مخضرم وواعظ من زمن آخر، يقود أتباعه بين قمم الوطن والسياسة، يغسل أدرانهم ويمسح دموعهم بصبر منقطع النظير، فكان به شيء من البنا وشيء من مانديلا وشيء من غاندي وشيء من أليندي وشيء آخر من غيفارا، جمع الرجل أولئك كلهم وأكثر في لوحة واحدة، أهداها بحرارة للجماهير غصت بها القاعة الكبيرة، في ليلة الوداع الأخير،
لم ألتق الرجل سوى مرة واحدة، كان ذلك في إحدى المناسبات الفكرية التي يقيمها المركز العربي الإفريقي للإعلام والتنمية، كنت ضمن حضور كبير لا يجمع بينه سوى نسب الثقافة وقربى الانشغال بالهم العام، وكان هو أيضا من بين ذلك الحضور،
قبل أن ينصرف، حرص الرجل أن يجعل بطاقته الشخصية تنزلق داخل جيب "دراعتي"، بلطف ولباقة وأدب، لاحقا سنتبادل رسالتين قصيرتين، سأشكره في الأولى على البطاقة، وسيرد علي الشكر في الثانية متمنيا أن نلتقي من جديد، بعد ذلك سيسلك هو ممرات سنيه الأخيرة في رئاسة "تواصل" وسأتخذ أنا لنفسي سبلا أخرى في هذه الدنيا الواسعة، ولن تسعفنا الصدفة باللقاء مجددا،
في كل مرة يطل فيها جميل، من شرفة إحدى المحطات الإذاعية أو التلفزيونية، كان يجعلني أعيد ترتيب أوراقي وأراجع كافة خلاصاتي السابقة حول التيار، وفي زمن العواصف الهوجاء، عرف الرجل كيف يرتب البيت الداخلي ل"تواصل" ويعيد إليه هدوءه وسكينته، فعل كل ذلك دون الاستغناء عن قطعة أثاث واحدة، فأثار دهشتي ودهشة غيري،
أحيانا، كان جميل يأخذ "تواصل" إلى الحافات الخطرة ويسلك به المنحدرات القاسية، وكنا نحن نحبس أنفاسنا، لكن الرجل كان يعود من رحلات الشتاء والصيف تلك، آمنا مطمئنا وبأقل الخسائر ودون أن يجعل "الجماعة" تشعر بالغثيان أو تصاب بالدوار، كل الذين راهنوا في وقت من الأوقات، على أن حزب "تواصل" سيتحول إلى "بازار"، جعلهم الرجل يخسرون رهاناتهم الواحد تلو الآخر ويبتلعون ريقهم الجاف.
قطعا، لا يزال الوقت مبكرا على كتابة كافة فصول الحكاية، فلابد أن نمنح الزمن السياسي فرصة يلتقط فيها أنفاسه، بعد أحداث هذه الليلة الكبيرة، لكن المؤكد أن الرجل هو واحد من أولئك السياسيين القلائل في هذا البلد، الذين لا يرهقونك كثيرا وأنت تودعهم، فيكفي أن تقول له ببساطة: "وداعا يا جميل"،
أنت أيضا، يا جميل، كنت محظوظا للغاية، مثل قراء كتاب صاحبنا ومثل أولئك الذين حضروا ليلة الميلاد الثاني، كنت محظوظا، لأن أتباعك تخلصوا من غرائزهم، ولم يهدروا وقتهم في لي أعناق النصوص وسحلها أمام الملأ، كما يحلو لآخرين، بل كرسوا ذلك الوقت الثمين، لكي يجعلوا زعيمهم يخرج من الباب الواسع، في ليلة كبيرة، صفق لها الجميع وستبقى محفورة في الذاكرة،
هنيئا لك ول"تواصل"، بهذا الخروج الذي يشبه الأحلام وطعمها، فالتعفن في الكراسي لم يجلب لأصحابه يوما، سوى القذارات وسوء الطالع