كنت أحلم منذ فترة أن يأتي اليوم الذي تتسواق فيه الكلمة والصورة معا في إعلامنا المرئي لتنقل للمشاهد الكريم ولهذا الشعب الطيب صورة الواقع كما هو. لكنني لبثت كثيرا في انتظار أن يتحقق هذا الحلم . حتى إذا التحقت بقناة الموريتانية عبر مسابقتها التي أجرتها السنة الماضية.
فكرت ونجمت كثيرا وأنا أفتش في وجوه القائمين عليها،لعلي أجد من يفهم أن الرسالة الإعلامية اليوم، لاستطيع أن تصل إلى الناس عبر البرامج ولا نشرات الأخبار.لأن الدراما وحدها هي القادرة على كسر المسافة بين المرسل والمستقبل.
لكنني وبحمد الله لم أطل البحث، لأن المديرة العامة لقناة الموريتانية " الدكتورة خيرة بنت الشيخاني، و" مدير الإنتاج الأستاذ تقي الله الأدهم"، كانا أكثر إدراكا مني لظمإ اللحظة إلى دراما محلية. تنقل إلى الناس واقعهم بمهنية واحتراف.كما أدركت أن مخرجا وفنانا كبيرا، رسم الابتسامة على وجوه الموريتانيين عبر سلسلته الخفيفة "ورطة في ورطة" أعني "الأستاذ بابا ميني" يستطيع بمهارة عالية وبوسائل بسيطة، أن ينقل إلى هذا المجتمع وجهه الآخر الذي لا ينظر إليه إلا إذا هجع الناس إلى فراش النوم أوفي حوارات الصالونات، أوتلك التي تتموج في سائط التواصل الاجتماعي. راسمة صورة أكثر قبحا وفجاجة للواقع.
من هنا كانت انطلاقة مسلسل" وجوه من خشب " الذي تابع الناس جزءه الأول في رمضان من سنة 2014. لكن ذلك الجزء على ما فيه من علات وهنات، كان مجرد ملاحقة سوسيو تاريخية لمظاهر التمزق التي حصلت في النظام ا لإجتماعي، وهو يعبر من مضايق البادية وسهولها إلى مدنية عرجاء، فشلت في تشكيل شخصية موريتانية متمدنة. ولهذا أسست لنا ما أسميه"مدن الفركان". ولأن التغير كان محصورا في البنية الإجتماعية، فقد اقتصر على مسلكيات فردية تظهرهنا وهناك، بدوافع كتأكيد الذات مثلا. كان ذلك في ثمانينات القرن الماضي،حيث لم تكتمل سلطة السوق التي تحولت إلي ىسطوة طاغية، ولم تظهر الانترنت بعد، ولم تصل العولمة إلى الحد الذي تبعثر فيه خصوصيات الناس وتغتال هويتهم. إلى الحد الذي تنبأ فيه فيلسوف كبير بحجم مارتن هيدجربما يسميه " انتصار التقنية وموت الإنسان" .
من أجل ذلك لم يثر الجزء الأول من المسلسل ما أثاره في جزئه الثاني بمجرد أن بثت الموريتانية إعلانه الذي يحتوي مشهدا للقتل أوالتآمر.
إنني أتقبل هذا الاعتراض من شخص عامي لا دراية له بالفن ولا بأصول النقد ولا حتى بمعارف الحداثة وما بعد الحداثة...إلخ.
لكن أن يأتي هذا الاعتراض من مثقف وشاعر كالأخ أحمد أبو المعالي المقيم في دولة الإمارات العربية، أومن غيره من مثقفينا فذلك أمر لا أفهمه ضمن أصول النقد الفني السليم!!! الدراما هي في النهاية صورة الواقع أولا تكون ،
واقعنا اليوم يقتل فيه الإنسان نائما في بيته لأن لصا ما قرر في سراديب عقله المريض أن ينهب هاتفا، أو جهاز كومبيوتر، أو مبلغا ماليا والأمثلة على ذلك كثيرة. وتحصل الجريمة بالسكاكين والمفكات وقواضب الحديد وبالإختطاف والحرق أحيانا وبين هذا وذلك يحصل الاغتصاب إلخ
واقعنا اليوم يغترب فيه معظم الناس عن أنفسهم، ويذهلون من قوة الحضور الذي تشغل فيه السوق كل مساحات الرؤية. عبر ألاف القنوات التي تتلاعب بعقولهم ضمن ملايين الإعلانات والمسلسلات ونشرات الأخبار المشحونة بالقتل والتشريد ووو. باختصار إننا كبشر نضيع في زحمة من الألوان، يرسلها القطب المسيطر والذي يملك التقنية ويبشر بالقتل والاستهلاك. ويزودنا بالوسائل الضرورية لذلك. نحن نغترب كأفراد، وفي كل لحظة داخل ألة مستطيلة صغيرة لا تتجاوز مساحتها راحة اليد ،إنها جهاز التلفون . ماذا أقول؟ أظن أن الصورة واضحة الآن. لذا عليك عزيزي أحمد أن تنتظر في الجزء الثاني من هذا المسلسل مشاهد أخرى، لكن حفاظا منا ونحن أبناء هذا المجتمع على هذا المجتمع تجاوزنا الكثيرو الكثير و حافظنا على مشاعر الناس حيث يخافون من رؤية صورهم في الواقع، ويكتفون بالنظر إليها عندما يحلمون فقط .
إننا في الجزء الثاني من هذا المسلسل نقول لمجتمعنا : انتبهوا فنحن نضيع!!! خاصة في مجتمع فرجوي بامتياز يستهلك بعيون مفتوحة في كل لحظة ما ترسله زي ألوان وأم بي سي وفوكس. ونشتري رغم ذلك لأبنائنا أكثر من لاقط ليستمتعوا بضياعهم، مقابل أن يفسحوا لنا الطريق لنضيع كرجال من باب آخر. عجبي
أحمد محمود العتيق