شهدت ستينيات القرن المنصرم قدوم سيدة رائعة، ستدخل بيوت كل الموريتانيين دون استثناء و ستصبح صديقة مخلصة للصبية والنساء كما سينزلها الطلاب والكبار منزلة خاصة.
ويختلف الناس وتتعدد أحاديثهم حول من جاء بتلك السيدة، وإن كانت أكثر "أصابع الاتهام" تشير إلى رجل الأعمال محمد الأمين ولد المامي، صاحب العمارة الشهيرة التي تقع وسط العاصمة نواكشوط.
"كلوريا" هذا هو اسم تلك السيدة الجميلة، وأما طبيعتها فهي علبة معدنية صغيرة من الحليب المركز الخالي من الدسم والسكر، وأما طعمها فما زال في أفواه أجيال من الموريتانيين كأن الأمر حدث البارحة، وأما قصتها فأكثر من رائعة وتستحق أن تروى:
أكبر صديقة للأميرة "كلوريا" كانت موجة الجفاف التي ضربت موريتانيا في سبعينات القرن المنصرم، أعداد هائلة من الموريتانيين نزحت من الريف نحو المدينة وتكدست في العاصمة نواكشوط داخل أحياء أغلبها من القصدير ستعرف لاحقا بأحياء الانتظار "الكبات".
كان القادمون الجدد مولعين بالمشروب المحلي المعروف ب "الزريق"، ولأنهم تركوا قطعانهم وراء ظهورهم جثثا هامدة، كان لا بد من أن يبحثوا بين رفوف دكانين المدينة عما يسد حاجتهم تلك، فكان ذلك هو العصر الذهبي للأميرة "كلوريا".
ومع أن سيدة أخرى ظهرت على الساحة في نفس الفترة كمنافسة قوية ل"كلوريا" هي الأخت المحترمة "سيليا"، إلا أنه لم يمض وقت طويل حتى أسرت الأميرة الصغيرة الألباب، وأصبحت البنت المدللة داخل كل أسرة موريتانية.
"الزريق"، "أنش"، "كوسي"، "العيش"، "باسي"، "الكندرية"...أصبحت "كلوريا" حاضرة في الكثير من تفاصيل حياتنا اليومية، سكنت رائحتها بيوتنا، كانت تنام معنا وتصحو معنا، ترافقنا إلى مدارسنا، نعثر عليها مختبئة في حقائبنا بين دفاترنا وأقلامنا الملونة، كانت رفيقة مخلصة للغاية.
ولم تتوقف أسطورة أميرتنا القادمة من منطقة المانش في فرنسا عند هذا الحد، بل استخدمت كذلك لعلاج العديد من الأمراض فكانت تخلط مع الصمغ العربي وتستخدم لدواء مرض "إكندي" الشهير لدى الموريتانيين، كما كانت تضاف إليها بعض الحلوى الحارة "مانت" أو "باستي فالدا" وتستخدم لعلاج "الزكام" و"أمراض البرد" وكان ينصح باستعمالها للمصابين بأمراض القلب وارتفاع الضغط.
علاوة على ذلك استخدمت "كلوريا" في بناء بيوتات وأقفاص الدجاج والحمام، كما تخصص البعض في بناء العمارات الصغيرة بها، واتخدت عجلات لسياراتنا الصغيرة وبالذات للجرافات "كرادير"، وكانت حاضرة بقوة في منافسات كرة القدم التي يقيمها الأطفال في الساحات العمومية، حيث كانت الكأس التي تسلم للفائز عبارة عن عدد من علب كلوريا حسب نوعية الرهان "علبة علبة" pot-pot أو أكثر، وفي بعض الأحيان كان حكام تلك المباريات يستخدمون علب كلوريا الفارغة في حال تعذر وجود صافرة.
حفظ الموريتانيون العهد والود لأميرتهم الصغيرة، فأطلقوا اسمها على كل أنواع الحليب المركز التي غزت سوقهم لاحقا حتى وإن أختلف الطعم والنكهة والزمن.