القاضي أحمد عبد الله المصطفى
يُقَالُ إن الرئيس الفرنسي الأسبق الجنرال دِيجُولْ حضر مرة أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة، وفي نفس العام حضرها الرئيس الغيني الأسبق شِيخُو تُورِي، المعروف بمناهضه لفرنسا..
وصلت الكلمة إلى الرئيس الغيني قبل الرئيس الفرنسي، فألقى خطابا مطولا جدا باللغة الفرنسة، كان أغلبه هجوما على فرنسا وسياساتها الاستعمارية ونهبها لخيرات الشعوب الإفريقية، وتضمن خطابه تجاه فرنسا بعض الألفاظ الخارجة على الأعراف الدبلوماسية، كما تضمن افتخارا كبيرا بإفريقيا وتاريخها وقيمها..
لم تتغير ملامح الرئيس الفرنسي، وحين وصلت إليه الكلمة القى خطابه المعد سلفا، ولم يعلق على خطاب الرئيس الغيني..
بعد نهاية الجلسة حلق الصحفيون الفرنسيون حول رئيسهم غضابا، وسألوه عن سبب عدم رده على خطاب شيخو توري، فقال بهدوء: "ألم تستمعوا إليه لقد تحدث بلغتنا، وليس بلغة آبائه الذين يفتخر بهم، يكفي هذا من الرد عليه"..
لا أعرف لماذا تذكرت القصة حين قرأت من نقائض تافهة المعارك "معركة النشيد الوطني" أن النشيد الوطني يجب أن يغير لأنه لا يبعث فينا حماسا وطنيا، ولا تعلقا بموريتانيا، ولأن لحنه لحن فرنسي..
وقد سطَّح من هذا رأيه رأسه عن حقيقة كون اسم "موريتانيا" الذي يريد نشيدا وطنيا يبعث الحماس، ويجعلنا نتعلق به، هو اسم انتحله الاستعماري الفرنسي كبولاني، تأسيسا على وصف انطباعي روماني قديم، لم يستعمل يوما علما على البلاد، وكان قبل هجرة جل سكانها الحاليين إليها بقرون، ولا علاقة له بالأرض ولا السكان، ولا ثقافتهم، وليس له معنى متفق عليه، وآباؤنا الذين يلوننا لا يعرفونه، كما أنه لم يجعلنا هو الآخر نتعلق بوطن، ولا يبعث فينا الحماس له..
إن البحث عن شيء يعلقنا بالوطن يجب أن يشمل بعد العقلية بحثا عن اسم للوطن نفسه يفي بهذا الغرض، وبحثا عن علَمٍ جديد ألا ترونا لا نحترم علَمَنا كما تحترم الأمم أعلامها؟، وبحثا كذلك عن شعار جديد، فهل بعثت فينا كلمات: شرف ـ إخاء ـ عدل، معانيها؟!..
إذا أوكلنا التعلق بالوطن إلى مجرد نشيد لا نسمعه إلا في المناسبات، ولا يفهم جلنا مدلوله ولا معناه، واستثنينا من ذلك مناهج التعليم، وعقلياتنا، فقد فرطنا في تعلقنا بالوطن..
يبقى أن كلمات النشيد الوطني الحالي طافحة بمعاني روحية مقدسة جليلة وجميلة، كانت تبعث الحماس في المؤمنين الموريتانيين من قبل ميلاد موريتانيا، ووحدتم وجمعتم قبل ذلك أيضا..
نسيتم أننا يوم خضنا الحرب الوحيدة التي خضنا لم نجد لبعث روح الحماس في جنودنا ومواطنينا، وجعلهم يقاتلون ببسالة كالقول إنها دفاع شرعي عن الوطن يقره الله ورسوله، ولم نجد في التعزية في جنودنا الأبطال، وبعث الصبر في نفوسنا إثر فقدهم كالقول إنهم شهداء أحياء عند ربهم يرزقون..
تذكروا إذا مررتم أو سمعتم: "كن للإله ناصرا" إلى "واسلك سبيل المصطفى" قول الله تعالى: "إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللهُ وَرَسُولُه.."، وقوله: "إِنَّمَا المُؤْمِنُون الَّذِينَ إِذَا ذُكِر اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ.."، وقوله: "وَإِذَا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ.."..
ثم تنبهوا إلى أن حماسية نشيد وطني ما لا تكمن في محاكاته لأناشيد دول أخرى، بقدر ما تكمن فيما يوفره من خصوصية ذاتية..
هذا، وتبقى "معركة النشيد الوطني" الدائرة بالنسبة لي تافهة، ولا تستحق تجريد صوارم الألسنة، ولا إشراع المثقفات من الأنامل..