هو الحوار الوطني الشامل إذن بطول وعرض وشمولية وجوهرية المواضيع المدرجة على جدول أعماله والمناقشة خلال أيامه التي تمددت إلى أسبوعين ثم إلى ثلاثة لتعميق النقاش، وإشراك من قرر الالتحاق به حتى لو كان شخصا واحدا، أو جماعة من مجموعة سياسية أو حقوقية أو مهنية، غير الشامل طبعا لكافة مكونات الطيف السياسي في البلد التي لا أعرف حقيقة ماذا كان سيطرحه من تغيب منها من مواضيع لم تدرج في جدول الأعمال الأصلي لمواضيع الحوار، أو تلك التي تقدم بها مشاركون من مختلف الفاعلين السياسيين والحقوقيين والنقابيين والقانونيين والاقتصاديين والدبلوماسيين والأدباء والمفكرين والعلماء والفقهاء والمؤرخين والأساتذة والمعلمين والفنانين والحرفيين والفلاحين والمنمين..!
وقد حاولت التذكير هنا بكل المواضيع المدرجة على جدول أعمال هذا الحوار، فوجدت أن ذلك سيتطلب مني صفحات كثيرة ستتحول إلى مجلد إذا ما أضيف إليها ما تقدم به المتدخلون من مواضيع أخرى في إطار مبدإ شمولية الحوار وفتحه أمام جميع والآراء والأفكار. ونكتفي هنا بذكر أن كل الجوانب الجوهرية في الحياة العامة للبلد أفردت لها أربعة محاور يتفرع ويتدلى من كل منها عشرات النقاط الأخرى وفي كل الجوانب السياسي منها والاقتصادي والقضائي والحقوقي والثقافي والتنموي..
قسم أخصائيو التصنيف الشعب الموريتاني إزاء هذا الحوار إلى مواطنين غرباء مستوطنين، وباعة وطن متآمرون عليه، وغوغاء ودهماء كانوا داخل قاعات الحوار أو خارجها مؤيدين للحوار مباركين له، ومواطنون حقيقيون أصليون شرفاء وطنيون مخلصون قاطعوا الحوار، وكانت " عدادات " الأجر والثواب والشرف والإخلاص تحسب لهم بكل حرف كتبوه مناهضة للحوار، وكل ثانية ناموها أو صحوها بعيدا عن قاعاته!
اتفق المشاركون في الحوار معارضة وأغلبية ومستقلين ومجتمع مدني على النقاط موضوع النقاش والحوار، لكن يبدو أن الرئيس ينوي أن يصبح ملكا وليس لديه من وسائل تمرير تلك النية سوى هاو للظهور دسه في القاعة ليصيح بضرورة تنصيب الرئيس ملكا، ليلتقط المقاطعون هذه الحادثة التهريجية ويختزلون فيها الحوار بكل مواضيعه وحجم ونوعية مشاركيه ! هذا الهاوي الذي كانت لديه وسيلة أخرى للظهور والتسجيل والتخليد في نُصب الأبطال المناضلين الشرفاء أسرع لو كان، بدل الدعوة للملكية، سب أصل وفرع الرئيس والمشاركين أو رماهم بحذاء أو فجر قاعة الحوار، ولكان التعرض له أو إخراجه من القاعة تعد على الحريات وتضييق عليها، فهل يكفي أن يقف شخص يريد لفت الانتباه إليه ويدعو للملكية لتصبح موريتانيا مملكة، وهل لدعوة كهذه قيمة في حوار يناقش ويؤسس لضمانات توسيع المشاركة الشعبية والتمكين للبرلمان والمؤسسات؟!
من هذا التهافت الطافي طيلة أيام الحوار الوطني موقف المتهافتين من العلم والنشيد الوطنيين، فتارة هما رمزان جامدان ثانويان للغاية لا علاقة لنهضة موريتانيا والتغلب على مشاكلها والتحديات التي تواجهها بتغييرهما، ثم التهكم من الحديث عن تغييرهما وكأنه ليس لدى البلد من المشكلات والتحديات سوى ألوان العلم وكلمات النشيد، وذلك بالرغم من أن موضوع العلم والنشيد ليس سوى " نقطة في جنب ثور " من حيث نوعية وحجم المشاركين في الحوار، وشمولية وتشعب وجوهرية المواضيع المدرجة على جدول أعماله وأهميتها في تطوير وتحسين منظومات الحكامة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.. وتارة هما رمزان مقدسان مباركان سيهدم المساس بهما كل ما سيحققه أي حوار وما سيضيفه من إصلاحات! إن ثراء وغنى وشمولية المواضيع المدرجة في جدول أعمال الحوار والمثارة المستجدة في جلساته هي ما جعل المقاطعين يترصدون الهنات والخرجات المعزولة ويجعلون منها قضايا كبرى!
منذ أن أصبحنا نسمع ونرى ونعقل، كنا نسمع من يتحدث عن عدم ملاءمة النشيد الوطني من حيث الكلمات ومن حيث خلوه من كل ما يشير لأمة أو حوزة ترابية أو وطن، بل إن عدة شعراء تطوعوا مرارا بنظم أبيات شعرية ونشروها متمنين إحلالها محل النشيد الحالي، ومن بينهم الشاعر الشيخ ولد بلعمش الذي لا أعتقد أنه ينتمي للحزب الحاكم أو للأغلبية أو " الملكية ".. وشخصيا سبق وأن عبرت عن عدم ملاءمة النشيد الحالي كنشيد وطني، لا لشيء آخر غير خلوه من عبارات استنهاض الهمم والشحذ الوطني والمواطني، مع كامل الإنصاف والتقدير لجهد واجتهاد من وضعوا العلم والنشيد الوطنيين، فالظاهر أنهم اتبعوا في ذلك حينها مبدأ ما تيسر أو ما وُجد على غرار " طعام المومن ".. والواضح أنه لم يكن هناك جهد وبحث كافيين لإقرار علم ونشيد وطنيين يحملان المعاني المتعارف عليها في هذه الرموز عادة، ونحن لسنا أول من وضع علما ونشيدا..
ونفس الشيء بالنسبة لشعار الدولة الذي اختزل كل تاريخنا في زراعة الذرة والنخيل، وظلت مبادئ الجمهورية التي هي الشرف والإخاء والعدل منفصلة عنه وخارج دائرته! فكل هذه الرموز عليها مآخذ ليست من اليوم، ولا مُطالب بتغييرها أو مراجعتها يطالب بذلك لاعتبارات من النوع الذي يخالج الصدور اليوم.. وبخصوص النشيد فإن العلة ليست في عدم صلاحية كلماته لنشيد وطني فقط، بل في لحنه وإيقاعه " البارد " أيضا! ومن باب حث كلماته على نصرة الله تعالى وإنكار المنكر والتزام الحق ابتغاء مرضاه الله، فكل ذلك وارد في نص القرآن ولا أعتقد أن في أبيات النشيد جديدا أو قوة أكبر وأبلغ من قوة كلام الخالق الذي من لم يزجره ويعظه فلن تزجره أو تعظه كلمات مخلوق!
وللجاعلين أصابعهم في آذانهم، المستغشين ثيابهم عن سماع ما نعنيه ونقصده بملاءمة نشيد وطني مما نحن متأكدون من أنهم يدركونه جيدا لولا بعض التعصب و " العكس "، نورد لهم كمثال نشيد الأرض للراحل فاضل أمين، بغض النظر عن الموقف الإيديولوجي للبعض من صاحب هذا النشيد والظرفية التي قاله فيها وإنما أوردناه كمجرد مثال، خاصة لمن يكره منهم كل حديث ويتشبث بكل قديم، فسيجدون أن هذا النشيد ينضح من أوله إلى آخره بالمعاني التي نقصدها كأمومة الأرض للشعب، وبنوة الشعب للأرض، والتغني بالأرض وفداها والأمانة في الذود عنها علاوة على لحنه الشجي والجياش..
كذلك اختزلت فضائل الحوار وأهميته ومواضيعه في ما سماه المتهافتون ب " اللون الدموي " الذي ستتم إضافته للعلم الوطني! ليس اللون الأحمر لون الدم فقط، فهو كذلك لون الورد وشقائق النعمان، ولون البلح والكرز والتوت والفراولة والتفاح والطماطم والشمندر والبطيخ والرمان، وكلها زهور تجلب البهجة والسرور، وفواكه للغذاء والدواء والشفاء... وهو لون الحب وشتى أنواع المشاعر الفياضة، وهو لون البساط الأحمر رمز الحفاوة والانتماء، وهو اللون الذي يستعين به أطباء علم النفس في علاج مرضى الكآبة والتوحد لدوره في شعور المريض بالانتماء، وهو أكثر الألوان تألقا ولذلك يتربع بشموخ على أعلام أغلب بلدان العالم، وإن كان يكفي اللون الأحمر أنه لون الدم أغلى ما يملكه الإنسان وشريان الحياة في جسمه، والدم هو المعبر عن الروابط الاجتماعية وعن التضحية والشرف والإباء، وهو الذي ينقذ به بعضنا حياة بعض عبر التبرع به وحقنه.. فلماذا هذا الرهاب من اللون الأحمر؟!
فليسم من شاء من سالت دماؤهم على أديم هذه الأرض في معارك مشهودة مع المستعمر ما شاء أن يسميهم مجاهدين أو مقاومين، ففي قاموسنا وفي قاموس المنطق والتضحية والفداء لا فرق، فمن مات دون ماله فهو شهيد، وكذلك من مات دون عرضه وأرضه، ولا فرق في ذلك بين الدفاع عن كيان أو إمارة أو قرية أو بحر أو كثيب.. المهم أنها مقاومة لغاز أجنبي يبغي السيطرة والتحكم الاقتصادي والثقافي! وإذا كانت تلك الدماء ليست ذات قيمة، فهناك دماء أخرى سالت بعد ذلك في حرب، بغض النظر عن وجاهتها، إلا أنها دماء سالت تضحية في سبيل وطن ودفاعا عن سيادة وحوزة ترابية تحت راية دولة ونظام... وهناك جنود آخرون دفعوا أرواحهم ودماءهم في السنوات الأخيرة دفاعا عن الوطن وحماية له من الإرهاب، ودماء أخرى لا زالت تجري في العروق حاملوها مرابطون على الثغور أهبة واستعداد لبذلها حماية للوطن .. فاعترفوا لنا من فضلكم، من بين كل هذه الدماء، بقطرة دم واحدة نزين ونُعطر بها علمنا لكي إذا سألت الأجيال القادمة لماذا هذا اللون الأحمر؟ قلنا لها لأن هناك من ضحى بروحه ودمه لكي تولدي أنت وتعيشي قي بلد سيد محمي..
من هذا التهافت أيضا موقف المقاطعين من الدستور والتحذير من المساس به كخط أحمر، وأنتم تعرون ونحن نعرف شخصيات وكتابا ومثقفين ومفكرين كثر ينتقدون وجود مجلس الشيوخ وأعباءه الكبيرة على موارد الدولة، ونعرف وتعرفون أيضا حزبا سياسيا من أكبر أحزاب المعارضة المقاطعة للحوار، ظل قادته يبدأون أول ما يبدأون عند حديثهم عن النظام السياسي في البلاد بالحديث عن عدم الحاجة إلى مجلس للشيوخ في بلد كموريتانيا سكانه لا يجاوزون الثلاثة ملايين نسمة كما يقولون، وينتقدون أيضا تعدد المجالس الدستورية كالمجلس الإسلامي الأعلى والمجلس الاقتصادي والاجتماعي، وينتقدون تشكلة ودور المجلس الدستوري وغيره، فكيف يمكن إلغاء مجلس الشيوخ وتغيير تشكلة بقية المجالس الدستورية أو دمجها دون اللجوء إلى تغيير المواد المقرة لهذه المجالس في الدستور؟ّ!
سينتهي الحوار الوطني، وسيتفق المشاركون فيه على ما سيتفقون عليه من مخرجات في كافة مناح الحياة السياسية والاقصادية والاجتماعية والقضائية والثقافية، مما سينضاف إلى نتائج الحوار السابق الذي كلما تحرر أحد المناوئين من قبضة وسلطة المعارضة الراديكالية وسطوتها وأشرطتها اللاصقة على أفواه منتسبيها منعا للاعتراف بأي شيء إيجابي في سياسات النظام، كلما تحرر هؤلاء إذن من تلك القبضة والسطوة اعترفوا بما حققه وما أضافه حوار 2012 من تحسينات وإصلاحات، فكل من انسحبوا من صفوف المعارضة المقاطعة لذلك الحوار اعترفوا اليوم بأهمية نتائجه وإضافاته، وسيعترف آخرون مقاطعون بأهمية نتائج الحوار الجاري، وسيشاركون في الحياة السياسية المستقبلية على ضوء ما تمخض عنه من إصلاحات.
أما نجاح هذا الحوار من فشله فقد حُسم في يوم افتتاحه، ولا أعتقد أن هناك حاجة لهدر الحبر في جدل كهذا، فهو ناجح بالنسبة للمؤمنين بالحوار والمشاركين فيه وما قدموه خلاله من آراء وأفكار، وقد أعجبني ما قاله أحد المشاركين من جالياتنا في الخارج ردا على سؤال حول توقعاته عن نجاح الحوار فقال: لا شيء ينجح مائة بالمائة ولذلك اعتمد معدل نصف الدرجات، وأحيانا أقل بقليل، لنجاح التلاميذ والطلاب واجتيازهم إلى الأقسام الموالية.. أما بالنسبة لمقاطعي الحوار فهو فاشل بكل المقاييس ونقطة وإلى رأس السطر، وذلك لسبب واضح هو أن ما تكلمنا عنه سابقا من متطلبات نجاح الحوار بالنسبة للمقاطعين لم يتم إدراجه على جدول الأعمال ك " التمييز الإيجابي " للمعارضة وتفصيل نتائج الحوار على مقاس فوزها في أي انتخابات قادمة، و " العزل السياسي " للرئيس وأركان نظامه لمنع أي منهم من استثمار ما راكموه خلال سنوات من عمل ومجهودات أضافت الكثير لوجه هذه البلاد على كل الصعد. ونقطة أخرى ولكنها، هذه المرة، لنهاية الكلام وحسم الجدل حول نجاح أو فشل الحوار.