عدة أسباب تتلاقى دائما لانطلاق كل ربيع وفي الغالب تكون الأزمات الصادمة لكل أمة هي الدافع لإحداث التغيير الذي يؤدي إلى تحولات جذرية في حياة كل أمة في الجوانب السياسية والاجتماعية وكذلك الحريات الفردية.
وعند قراءة التاريخ الحديث يستوقفنا ربيعان:
الربيع الأوروبي في القرن 18 والربيع العربي في الوقت الحالي فما هي ظروف قيام الربيع الأوروبي؟ وكيف قام وما هي نتائجه؟ وكيف قام الربيع العربي؟ وما هي نتاجه ومعوقاته؟
في القرن الثامن عشر ميلادي ظهر تيار فلسفي وعلمي جديد عرف باسم: الأنوار أو التنوير وتعتمد هذه الفلسفة على الاعتقاد الجازم بأن التقدم ممكن في أوروبا وأن العقلانية والصرامة العلمية هما سبب التقدم ولذلك فإن فلسفة الأنوار تتميز بالعقلانية السياسية وتمجيد وإعلاء شأن العلم.
لقد دفعت هذه النظرة الفكرية أصحاب الفكر إلى التشكيك في أسس وركائز النظام القديم الأوروبي في المجالات السياسية والاجتماعية.
إن النظام القديم الأوروبي كان نظاما جامدا قائما على أربعة ركائز تمكنه من إرساء شرعيته: فعلى المستوى السياسي هنالك الملكية المطلقة التي تقوم على الحق الإلهي والتي كانت سائدة منذ أكثر من ألف سنة وتجد هذه السلطة مبررها في نظرية الحق الإلهي التي تعني أن الملك ممثل الله في الأرض وأنه يستمد سلطته منه وليس مسؤولا إلا أمامه.
لقد أصبح أهل العلم والفكر يشككون وينتقدون هذا النظام العتيق المتجاوز حتى تفكك على أيديهم في عهدلويس الخامس عشر .
وإذا كان "فولتير" قد اقترح ملكية برلمانية فإن "مونتوسكيو" في كتابه روح القوانين يطرح فصلا بين السلطات ، أما "جان جاكروسو" فذهب بعيدا واقترح ديمقراطية يكون الشعب فيها هو مصدر السيادة. وانطلاقا من تلك الأفكار كان الربيع الأوروبي ربيع علم وازدهار ، بخلاف الربيع العربي الذي بدأ في الرابع عشر من كانون الثاني يناير 2011 على إثر فرار صفوان تونس واستقالة عكرمة مصر في الحادي عشر من فبراير 2011 ، لتعم الاحتجاجات بعد ذلك معظم العواصم العربية ، لتنتقل إلى روسيا في الثامن من فبراير 2011 ثم الصين في العشرين من فبراير.
ولاشك في أن هذا الربيع جاء كردة فعل على الانسداد السياسي وقساوة الحياة ونجح في إسقاط أربعة أنظمة.
لكن المؤسف في هذا الربيع هو غياب حركة تنوير كالتي واكبت الربيع الأوروبي ، بل لم يساهم أهل الفكر والعلم في التمهيد لهذا الربيع بصفة آمنة وحضرية مما أدى إلى انزلاق بعض البلدان إلى الحروب والتدخلات الأجنبية التي لا تسعى إلا لمصالحها وأجنداتها الخاصة ، فهدمت الأوطان واستبيح الحمى ، لتكون المحصلة النهائية لهذا الربيع وفق ما تفوه به أحد الدكتاتوريين العرب ، فشل اجتماعي ، فشل سياسي ، فشل اقتصادي ولكن يبقى السؤال الذي يطرح نفسه دائما بلا إجابة وهو: متى سيتولى أهل العلم والفكر العرب ، حمل لواء التغير بالطريق الأمثل والمسلك الآمن فيرسموا لأمتهم خطط تنوير مشابهة لتلك التي رسمها مفكرو الغرب لأمتهم؟
أم أن الكيانات السياسية العربية لا تعدوا كونها شبيهة بالكيانات التي وصفها ابن خلدون بأنها كيانات تولد ، وتنموا ، وتنقرض.