الاحتلال: في البدء كان القانون | البشام الإخباري

  

   

الاحتلال: في البدء كان القانون

عبد الله العودة كثيرون يعتقدون أن عملية الاحتلال هي قرار في ظروف محددة وفي حالة استثنائية وضمن حالة سياسية خاصة، على حين أن عملية الاحتلال الصهيوني كانت ولازالت نتيجةً لمجموعة كبيرة جدًا من الثقافة والقانون والسياسة والدين الذي شرعن كل ذلك الاحتلال وسوّغه وزخرفه وهيّأ كل الظروف المحيطة به؛ ليصبح بعد كل ذلك احتلالًا ناجزًا.

وكثيرون أيضًا يعتقدون بأن وجود “قانون” إجرائي ضمن نظام وسياق معيّن يعني أن هذا القانون حقّق كل الشروط الطبيعية والمفترضة له لكي يكون شرعيًا وصحيحًا وعادلًا. لأجل ذلك دائمًا كانت تحرص الأنظمة الاستعمارية قديمًا والمحتلة حديثًا والنظم الاستبدادية العربية على تحقيق الإجراءات الشكلية لتمرير قانون ما داخل منظومة معينة بغض النظر عن مشروعية ذلك القانون أو عدالة تلك المنظومة أو أحقية تلك الشروط الموضوعية التي قادت لذلك القانون.

قانون الاستعمار وقانون الاحتلال، قانون يقوم على الإجراءات الشكلية وتحقيقها بعض النظر عن أخلاقيتها ومشروعيتها.

وضمن هذه القاعدة قامت الأنظمة الاستعمارية على شرعنة عملية الاحتلال باعتبارها “إعمارًا” لأرضٍ خربة و”إحياءً” لأرضٍ  ميتة؛ ولذلك كانت واحدة من الأساطير المؤسسة للسياسة الصهيونية -حسب روجيه جارودي في كتابه الشهير في هذا الشأن- مقولة أن فلسطين “أرض بلاشعب” بينما العنصر اليهودي المشتّت بالعالم “شعب بلا أرض”، فهو افتراض استعماري مسبق يؤسس للاحتلال باعتباره “إعمارًا” لأرض لا تحمل ثقافة ولا شعبًا، وباعتبار أن الثقافة العربية والإسلامية والشعب الفلسطيني معدوم كأن لم يكن!

لذلك؛ كانت قوانين هذا الاحتلال منذ الأساس تشرعن سرقة الأرض واستعمالها وتحوّلها لمن يحسن استعمالها و”استعمارها”، وبالطبع هذا القانون المؤسس للاحتلال يفترض ثقافيًا أن الأمة العربية والإسلامية لا تحقق الشروط الثقافية لتكون “شعبًا” ولا الشروط الحضارية لكي ترعى نفسها وتتخذ قرارها بنفسها؛ فهي كالطفل الصغير الذي يحتاج للوصي والوكيل والكفيل لكي يرعاه ويدير شؤونه وهكذا هي هذه الشعوب التي جرى استعمارها واحتلالها يتم النظر إليها من قبل مؤسسات الاستعمار على أساس أنها أرض ومادة خام ومصادر ثروة ومتحف مغبرّ، يحتاج لهذا المؤسسات الاستعمارية أولًا ثم الاحتلالية ثانيًا لكي ترعى مصالحه وتستغل هذه الفرص في أرضه ومواده الخام.

قانون الاستعمار الذي أسّس للاحتلال يرى أن الأرض هي لمن تحقّق وقوعها في يده، ومن يستطيع فرض نفسه بالقوة، لا من يستحقها، ومن له الحق في عمارتها. قانون الملكية والأراضي في كثير من العالم الغربي حتى اليوم قائم على هذا الشيء: على أن الأرض تتحوّل مع مرور وقت محدود حتى مع وجود صاحبها إذا لحقها الإهمال إلى الأجدر بعمارتها. والقانون نفسه يقرر ماذا يتم العمل به ويطبق المعتاد، وليس الصحيح والأخلاقي؛ لذلك ليس غريبًا أن يكون الاحتلال والاستعمار نتيجة طبيعية لهذه المفاهيم القانونية التي تتعامل مع عملية الاحتلال المستمرة كواقع فرض نفسه؛ وبالتالي لابد أنه يمتلك مبرراته.

وحينما يقولون قانونيًا بأن الأرض يستحقها “الأجدر بعمارتها” فهم هنا قد يبدون عقلانيين وموضوعيين، ولكن حينما نعلم بأن كلمة “الأجدر بعمارتها” كلمة ملغمة وخطرة ومنحازة لمن اخترع هذه العبارة ولمن سنّ هذا القانون وصاغ هذا النظام فإن القانون سيكشف عن الرغبة الاحتلالية في هذا القانون.

كلمة “الأجدر بعمارتها” تحدد معناها نفسُ الثقافة التي أسّست للاستعمار وصنعت الاحتلال؛ لذلك فلن تكون الثقافة العربية الإسلامية بحضارتها وقيمها وعناصرها وتجربتها وتراثها وأنظمتها “شيئًا” يستحق أن يكون “أجدر بعمارة الأرض”؛ بل لابد أن يكون ضمن شروط محددة يتم صناعتها وتحديدها من قبل المحتل نفسه.

في الشأن الفلسطيني، لايزال الاحتلال الإسرائيلي يتعامل مع موضوع الأرض الفلسطينية والمستوطنات والقدس بنفس الطريقة؛ فالأولوية هي لهذا “الأجدر بعمارتها” الذي تم تحديده مسبقًا ليكون إسرائيليًا حسب المفهوم الصهيوني، ويتم التعامل مع الأرض الفلسطينية بالعموم باعتبارها “مواتًا” يجب إحياؤه ورعايته؛ لأن هذه المادة الخام لا تنال الرعاية التي “تستحقها” وبالطبع لن تكون هناك “رعاية” تستحقها هذه الأرض إلا ضمن الفهم الذي يرعاه هذا الفكر الاحتلالي الموروث من المبدأ الاستعماري.

وفي هذا السياق، يحرص قانون الاحتلال هذا على عدم مناقشة مسألة “من هو صاحب الأرض” أو “من يملك هذه الأرض”؛ لأن هذه المسائل الأخلاقية لا يتعرض لها القانون الوضعي ولا يبحثها؛ فالقانون يناقش فقط الإجراءات العملية والشكلية، وهكذا تتعاون كل هذه العوامل الحداثية المريضة لكي تقدم الاحتلال على طبقٍ من ذهب مغصوب، وهكذا يبدو أن الاحتلال في البدء كان قانونًا.

تصفح أيضا...