أربعة أشهر على موعد القمة إذن؟ | البشام الإخباري

  

   

أربعة أشهر على موعد القمة إذن؟

عبرت في كلام سابق عن أملي في أن تعتذر بلادنا عن استضافة مؤتمر القمة العربية القادم، ولذلك أسبابه الوجيهة بالنسبة لي وقتها، حيث أنه من المعتاد أن تنعقد القمم العربية في الأسبوع الأخير من شهر مارس من كل سنة، ولأن اعتذار المملكة المغربية عن استضافة القمة جاء منتصف شهر فبراير وكان مفاجئا، فمعنى ذلك أنه لم يبق على موعد القمة حينها سوى شهر، فبدا لي الأمر بمثابة عدائيْن كانا في وضعية الانطلاق في سباق للعدو، وقبل صفارة الانطلاقة بثلاثين ثانية انسحب أحدهما من السباق، فقيل لأحد المارة وهو في ملابس الراحة، ولم يمارس رياضة العدو في حياته تعال حل محل العداء المنسحب..!

أما وقد ظهر فيما بعد أن موافقة بلادنا على استضافة القمة كانت مشروطة، أو مُرفقة، بضرورة تأجيلها إلى غاية أواخر شهر يوليو فقد أصبح للحدث حديث آخر، لأن البلاد ستكون قد بدأت تأخذ في الحسبان ابتداء من منتصف شهر يناير، أنها أصبحت معنية بحدث سيكون بعد خمسة أشهر بدلا من شهر واحد، مما يمكننا من أن نقول لا بأس.. فأواخر يوليو لا زالت تفصلنا عنها أربعة أشهر وما سيتيحه ذلك من وقت إضافي لتوفير ما يمكن توفيره من متطلبات عقد المؤتمر من جوانب تكلمنا عنها سابقا، كما أن شهر يوليو هو من أكثر أشهر السنة اعتدالا من ناحية الطقس، حيث تهب خلاله الرياح الموسمية الجنوبية بنسائمها العليلة وشمس أيامها المحجوبة بالغيوم، وهو أيضا شهر جني الرطب الجني الذي يمكنه أن يزين و يُغني ويُحدث فرقا في موائد الضيوف، ويفيد المنتجين في نفس الوقت..

لم أكن وحدي من تحدث عن الموضوع حينها، فقد عبر البعض عن نفس المخاوف مما سيخلقه ضيق الوقت من إرباك لموريتانيا، وحتى وسائل الإعلام الدولية تحدثت عن ذلك الإرباك المفهوم، إلا أن البعض الآخر ذهب إلى أمور لم نقصدها ولم تكن هي مدار حديثنا، ككون البلد ليس لديه ما يخفيه، وكونه إن لم يكن يمتلك أبراجا وجسورا ومعالم كبيرة، فإنه يمتلك كثبانا ذهبية وضفافا خضراء وجبالا و مدنا أثرية ومناظر خلابة، وتحدث آخرون عن المزايا الاقتصادية التي ستدرها القمة على بلادنا، وذهبت الأماني بالبعض الآخر إلى فرصتنا في أن نجعل من انعقاد القمة على أراضينا فرصة لبذل المساعي لحل النزاعات ولم الشمل العربي وإطفاء الحروب..

لم يكن كل ذلك هو مجال حديثنا، فصحيح أن ليس لدينا ما نخفيه، بل العكس، إذ أن لدينا ما نبديه إذا كانت القضية قضية إخفاء وإبداء.. فمن يعرفون مدينة نواكشوط من الزوار ممن زاروها أو أقاموا بها سابقا، لن يفوتهم ما طرأ على وجهها في السنوات الأخيرة من شوارع وأرصفة وإنارة ومبان حديثة بدأت " تبزغ " في وسط العاصمة لأن ذلك ملاحظ وملحوظ، ومن يعرفون مطارها القديم سينزلون بمطار آخر حديث والباقي سيأتي بحول الله، وإن كنا نقيم كل ذلك ونريده لأنفسنا قبل غيرنا.. لكن القمة ليست مهرجانا ثقافيا ولا موسما سياحيا للتعريف بمقدرات موريتانيا الثقافية والسياحية والأثرية، ولاهي كذلك قمة اقتصادية أو مؤتمرا للمانحين يعول عليه في الجوانب الاقتصادية.. بل هي لقاء سياسي دوري يحضر ضيوفه عادة في الصباح ليبدؤوا المغادرة في المساء أو في الصباح الموالي على أبعد تقدير، وقد لا يغيروا ملابسهم التي قدموا فيها، وبذلك ليس لديهم وقت لاستكشاف، أو التمتع بالكثبان والشواطئ والضفاف الخضراء والجبال والآثار.. فلذلك مناسباته وفرصه الخاصة به.

وكم كنا نتمنى لو أننا قادرين على تجسيد أماني و آمال الآملين في قيامنا بدور لحل النزاعات ولم الشمل العربي وإطفاء الحروب  " ماه كرهو غير اتعسريه " لكن تلك النزاعات والحروب لها بذورها وجذورها الممتدة عبر التاريخ من عهد الدولتين الأموية والعباسية، ثم الفاطمية،  والمماليك والحكم العثماني، والانتداب البريطاني والاستعمار الفرنسي، والواقع الطائفي والقومي، وقيام إسرائيل، واكتشاف النفط في الشرق الأوسط وتموقعه على ثلاث مضايق وممرات مائية حيوية، وسايكس بيكو الأولى، وسايكس بيكو الثانية التي تُرسم خرائطها اليوم.. بالإضافة لظهور التشدد والإرهاب وإصرار معتنقي فكره على أنه هو جوهر الدين الإسلامي الذي تدين به غالبية شعوب المنطقة. فالأمور إذن أكثر تعقيدا مما يتصوره بعضنا، وخيوطها متشابكة وأغلبها في أيدي قوى إقليمية ودولية أخرى تتصارع على المصالح الاقتصادية والنفوذ الاستراتيجي ونحن مجرد أدوات!

 كما أن القمم العربية لم تكن يوما مناسبة لحل النزاعات وإطفاء الحروب، بل ظلت منبعا ومناسبة لتعميق تلك النزاعات، وظل أقصى ما يمكن القيام به تحضيرا لها هو ما يعرف بجهود " تنقية الأجواء " التي تسبق كل مؤتمر قمة بهدف قبول هذا الزعيم العربي أو ذاك حضورها، حيث أصبح مجرد الحضور نجاحا في حد ذاته! عكس ما نراه في قمم التجمعات الدولية الأخرى كالاتحاد الأوربي و " الآسيان " بل وحتى الاتحاد الإفريقي، حيث لا نرى قادة هذه التجمعات إلا وهم في القاعة يتبادلون إيماءات التحايا والابتسامات، يقرون ما اتفقوا عليه ويؤجلون نقاط خلافهم إلى اللقاءات القادمة ويغادرون.

 بخلاف القمم العربية التي ما إن يقترب موعد انعقادها حتى تبدأ التكهنات عن من سيحضر ومن سيغيب من قادة الدول الأعضاء، وقبل انعقادها بيوم ينتقل قائد البلد المضيف ليقيم في المطار، ويضيع يوم كامل في النقل المباشر لوصول الضيوف المتثاقلين، ثم تفتتح القمة بالخطب المكررة التي لا حاجة لملقيها لكتابتها من جديد أو للحذف منها والإضافة إليها سوى تغيير اسم البلد المضيف و اسم رئيسه، ولا يعرف المراقبون في أي لحظة سينسحب أحد الوفود احتجاجا على كلمة في فقرة، أو حرف في كلمة، أو فاصلة بين جملتين رأى فيها ما يعتبره مساسا من موقف ومصالح بلاده!

وقد كان العرب يجتمعون في الماضي وعلى رأس جدول أعمالهم الصراع العربي الإسرائيلي والقضية الفلسطينية كقضية مركزية، لتتالى القمم وتطرأ على جدول أعمال كل قمة قضية عربية جديدة تزاحم القضية المركزية وتزيحها عن الأضواء، فطرأت قضية الحرب الأهلية اللبنانية، ثم مشكلة الصحراء الغربية، ثم الحرب العراقية الإيرانية، ثم قضية الجزر الإماراتية، ثم الحرب في الصومال، واحتلال الكويت وحرب الخليج الثانية وتداعياتها، وحصار العراق ثم غزوه واحتلاله، لتأتي الفوضى التي عصفت بالمنطقة مؤخرا وتحطم ما تبقى من آمال للمواطن العربي في كيان اسمه " وطن عربي " حيث أصبح بقاء الكيانات القطرية هو الأمل الوحيد والهدف المنشود!

لم نرد كذلك بكلامنا السابق الوقوف في وجه تسلق البلاد للقمة كما ذهب البعض، وحتى لو كان هناك من ذلك مسعاه، فإن القائمين على شؤون البلد لم يأتمروا بأمره، ولم يتوقف لهم شيء على رأيه، وليكن مستشارا بوزارة الخارجية مُقالا انتهى دوره الاستشاري يوم أقيل، ولا أحد يتدخل له بعد ذلك في شكل ردات فعله وما يُعمر به فراغه ووحشته الوظيفية.. فقد عملت قيادة البلد ما في وسعها للدفع بالدبلوماسية الموريتانية، وتجسد ذلك في تضاعف عدد البلدان التي ارتبط بها البلد دبلوماسيا ومن كافة القارات، وفي تحرره من الارتهان لتجاذبات الجوار الشمالي، وتزايد عدد أبنائه في الوظائف والمسؤوليات الأممية والإقليمية، وترأسنا الاتحاد الإفريقي وأشرفنا من خلال رئاسته على العديد من القمم، إفريقية أمريكية، وإفريقية أوربية، وإفريقية تركية، وظل اسمنا حاضرا وموقفنا مُنتظرا ودورنا محسوسا، وشكلنا " مسار نواكشوط " ومجموعة دول الساحل وترأسناهما وسنرأس الجامعة العربية، وليس الذنب ذنبنا إذا كان هناك من يزعجه ذلك ويجمع ويبحث له في كل زاوية عن مبررات " التعديم "! فلم نمارس إلا حقنا، وما أردنا بممارسة ذلك الحق التسبب في الصداع أو " التحسس والحكة " لأحد.

رؤيتي لما يدور حول القمة العربية وقبول بلادنا استضافتها إذن، لا أزيده ولا أنقصه ـ في الظرف الراهن الذي تمر به المنطقة ـ على أن أبناء عمومتك المتخاصمين، ولست طرفا في خصوماتهم ونزاعاتهم التي تتعدى حدود طاقاتك، طلبوا منك أن تجهز لهم بيتك لإقامة أحد اجتماعاتهم، وما عليك سوى أن تجهزه لهم، تستقبلهم بحفاوة دون تكلف، وتحسن وفادتهم وتوفر لهم الأجواء والظروف المناسبة ثم تودعهم متمنيا لهم العودة الميمونة والتوفيق، فإذا اجتهدت في القيام بذلك فقد قمت بما عليك، حضر منهم من حضر وغاب منهم من غاب، فلا يربطن لنا أحد كذلك بين انعقاد القمة في نواكشوط وانخفاض مستوى التمثيل فيها، فهناك خمسة أو ستة قادة عرب قد دأبوا على التغيب عن القمم العربية أينما عقدت، وهناك بلدان أعضاء بلا رؤساء إلى حد الآن حتى يحضروا أو يتغيبوا، وأحد البلدان الأعضاء مطرود من الجامعة وآخر رئيسه طريح الفراش، وسنقبل أعذار من يعتذر من الباقين ولا مشكلة.

المهم هنا هو أن يعتبر كل الموريتانيين الحدث حدثهم والضيوف ضيوفهم وليسوا ضيوف رئيس أو حكومة فقط، وأن تعي اللجان المكلفة بالإعداد والإشراف على تنظيم القمة ذلك أيضا، وأن لا تكون كتلك اللجان التي شكلت سنة 2010 لتقدير التكاليف اللازمة لتخليد خمسينية الاستقلال فتقدمت بمبلغ سبعة مليارات أوقية، مما جعل الرئيس يرفض تلك التقديرات ويلغ الاحتفالات، إذ تم اقتراح ذلك المبلغ الضخم من طرف تلك اللجان على أساس " تعدال كرشة " من مخصصات الاحتفال! تلك العقلية و ذلك السلوك اللذين نخشى ممارستهما في مخصصات القمة من طرف لجان الإعداد والإشراف، مما سينعكس سلبا على مجريات المؤتمر استقبالا وتنظيما ونقلا وإقامة وإعاشة.. هذه اللجان التي ينبغي اختيارها بعناية، مع الحذر من كثرة اللجان والمتدخلين والطفيليين وعارضي الخدمات الوهمية، وتداخل المسؤوليات والصلاحيات الذي يؤدي إلى تدخل كل لجنة في صلاحيات الأخرى، وفي النهاية الخلبطة وتدافع المسؤوليات! وللمساعدة في ضبط كل ذلك، فمن المهم أن تكون كل لجنة على علم مسبق بأنها ستخضع للمساءلة و " تفتيش الجيوب " والمحاسبة على التقصير بمجرد توديع الضيوف.

محمدو ولد البخاري عابدين