العلاقة الروحية والثقافية بين موريتانيا والسينغال | البشام الإخباري

  

   

العلاقة الروحية والثقافية بين موريتانيا والسينغال

كانت العلاقة بين موريتانيا والسينغال، أول ما كانت روحية وثقافية، فعَبْر نهر السينغال المتدفق بالماء الزلال الذي يروي عطش الإنسان والأرض، تشابكت خيوط هذه العلاقة الروحية والثقافية الضاربة في أعماق التاريخ والجغرافيا.

كان الدين الإسلامي الحنيف عامل التوافق والتآلف الأبدي الأبرز بين ضفتي النهر المبارك، حيث شاعت التلمذة الروحية المتبادلة بين البلدين الشقيقين الجارين، وازدهر التبادل العلمي والثقافي.

مواكب نور في الاتجاهين

تشترك الحضرات الصوفية في البلدين في الكثير من القواسم والميزات، منها الأسانيد والطرق الصوفية وأساليب التربية الروحية، كما أن هذه الحضرات يتأثر بعضها ببعض ويأخذ بعضها عن بعض، وقلَّ أن تجد إمام حضرة سينغالي لم يُقم في موريتانيا أو يزرها وينسج علاقات روحية مع أئمة حضراتها وزواياها وشيوخ محاظرها، ومن ذلك إقامة الشيخ أحمدو بمبا (اسرين طوبى) في الصرصاره، غير بعيد من بتلميت، وزيارات الشيخ ابراهيم انياس الكولخي، العديدة لموريتانيا، والعكس صحيح، حيث أن أغلب شيوخ الحضرات الموريتانية، أقاموا في السينغال أو زاروه، مثل الشيخ محمدو ولد أنحوي، الذي قدم إلى مدينة باي، شابا يافعا وظل بها حتى فتح الله عليه وتجاوز الأربعين، وكذلك الشيخ سيد أحمد ولد اسمُه، صاحب كتاب “ذات ألواح ودسر” الذي أقام في طوبى فترة وزارها مرات.

وتجسيدا لهذا الإرث الروحي المتبادل، من المألوف حتى في أيامنا الحالية أن تشاهد مواكب نور تعبر إلى الضفة اليمنى قاصدة “النمجاط” أو “انولكي” أو “بتلميت”، وغيرها من الحضرات الصوفية الموريتانية، وفي نفس السياق تعبر مواكب نور أخرى، إلى الضفة اليسرى، قاصدة الحضرات في “تواون” و”طوبى” و”كولخ”، وغيرها من الحضرات الصوفية السينغالية.

إن هذا المظهر النوراني من مظاهر التأثير والتأثر الروحيين المتبادلين، ألِفَه الشعبان منذ أمد بعيد، وصار يورِّثُهُ الوالدُ ولده.

هذه العلاقة الروحية أنتجت تاريخا من المعارف الدينية والأسرار اللدُنِيَّة والمُكَاشَفات الربانية، التي حفظت بعضها بطون الكتب والرسائل والكَنانيش، بينما بقي بعضها في صدور رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، وظلت صمام الأمان للعلاقة بين البلدين والدرع الذي يقيها غوائل الزمن وتقلبات الطقس السياسي والاجتماعي والاقتصادي، بل وأكثر من ذلك ساهمت في ازدهار العلاقات بين الضفتين على مختلف الصعد السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ولا زالت تساهم إلى يوم الناس هذا.

العلاقات الثقافية

يرى بعض من الباحثين التاريخيين، أن التجار الموريتانيين كان لهم بعض الدور في نشر الدين الإسلامي واللغة العربية في السينغال، ومع مرور الوقت لعبت الحضرات الصوفية في البلدين أدوارا ثقافية مشهودة في هذا المجال، كما كان للمحاظر الموريتانية دور بارز في استقطاب العديد من الطلبة السينغاليين الذين عبروا الماء إليها للتزود من معينها العلمي والمعرفي، ولينسجوا لاحقا على منوالها بعد عودتهم إلى ربوعهم جنوب الماء، وهي ظاهرة تعززت في السنوات الأخيرة، وعند محاظر التيسير والنباغية الخبر اليقين.

ومن التجارب الثقافية الناجحة تجربة مدارس الفلاح، لمؤسسها الشيخ الحاج محمود باه، وهي تجربة بدأها من وطنه موريتانيا، ولكنه سرعان ما أوصلها للسينغال وغيره، وعرف عن مدارس الفلاح، نشرها للغة العربية وتعاليم الدين الإسلامي الحنيف.

وفي مستهل القرن الميلادي المنصرم، رأت النخب العلمية والروحية الموريتانية، مدينة سينلوي (اندر) التي كانت عاصمة للمستعمرات الفرنسية في غرب إفريقيا، فتعرفت على العالم وشاهدت بواكير مباهج الحضارة، وقد أنتج تواصلهم مع النخب العلمية والروحية السينغالية علاقة ثقافية وطيدة وشاع ما سيعرف لاحقا بصالونات “اندر” وهي صالونات تعاطت الثقافة بنهم، وفي ضوء هذا التواصل كانت النخب العلمية والدينية السينغالية ترسل أبناءها للمحاظر الموريتانية للتشبع بالعلوم الشرعية واللغوية وحتى بالثقافة المحلية، ولعلَّ أبرز المتخرجين بتفوق من تلك البعثات في ذلك العهد، كان الترجمان الحاذق دودو سك، المعروف عند الموريتانيين ب (ول ابن المقداد).

ومن خلال البوابة السينغالية وعلى يد عدد من التجار اللبنانيين الذين أقاموا مبكرا في السينغال، اطلع العرب في المشرق على نماذج من آداب وثقافة الموريتانيين، فقد حملوا أشعارهم وألفوا كتبا عنهم كانت بمثابة أوراق اعتماد في المشرق العربي وفي بيروت بالخصوص وهي يومها عاصمة الطباعة والمطابع.

وبالمحصلة فقد أنتجت هذه العلاقة الثقافية بين ضفتي النهر المبارك، أسفارا من الكتب ودواوين من الشعر الفصيح واللهجي، ظل يتعاطاها خلف عن سلف، وكانت رافدا لا ينضب من روافد العلاقة بين الشعبين الشقيقين والجارين، وعاملا من عوامل قوة العلاقة الخاصة جدا بين أمتين تجمعهما وشائج الدم والدين والثقافة والماضي المشرق والحاضر الطيب والمستقبل الواعد.

ولعل أبيات الشاعر والعالم والصالح امحمد ولد أحمد يوره، التي مزج فيها بين العربية والولفية تكون المعبِّر عن هذه العلاقة الثقافية الغنية والجميلة:

يا خود إن غراب البين منك صرخ

والقلب يطلب من وصل لديك “سَرَخْ”

ضننت بالوصل حتى بالحديث ولا

أرى ضنِينا سواك الدهر ضن ب “وَخْ”

لا تمنع الوصل من من يستهام به

أتمنعين وصال المسـتهام “لُتَخْ؟”

لم تعلمي أن خير الناس أكرمهم

والخير يبقى وإن طال الزمان إلخ.

 

واما 

تصفح أيضا...