جوهر الأمن الأمن الثقافي | البشام الإخباري

  

   

جوهر الأمن الأمن الثقافي

للأمن دلالة واسعة وأبعاد كثيرة تتجاوز الاعتبارات الاستراتيجية والحسابات العسكرية المباشرة في إطار لعبة القوى الإقليمية والدولية . والحال أن ثمة بعدين من تلك الأبعاد هما بالنسبة إلينا في الوقت الحالي في غاية الأهمية : الأمن الثقافي والأمن الغذائي.
في هذه المرة سأريح الأصدقاء المتتبعين لهذه الصفحة من كآبة التحليلات الأكاديمية التي يبدو أنها باتت عيبا يرد به لدى البعض وسأقتصر على بعض الانطباعات الشخصية وبعض التأملات التي تولدت لدي من زيارتي الأخيرة لمصر وما يشاع الآن من خبر زيارة رئيس الجمهورية لذلك البلد الشقيق. لقد استفدت الكثير من زيارتي لمصر في الأشهر الماضية وقد لفت انتباهي أمران مهمان وأنا أفكر في أحوال بلدي :
 فقد منّ الله علي بأن صليت جمعتين متتاليتين في أحد مساجد دمياط الجديدة بجمهورية مصر العربية استمعت في أولاهما إلى خطبة جميلة وهادفة فيها من وسائل الإقناع والحجاج ما يكفي وفرحت فرحا شديدا بما تضمنته مما هو خارج عن المألوف بالنسبة إلي فحضرت في الجمعة التالية تشوقا لسماع صوت ذلك الإمام الشاب لكنني فوجئت بوجود شاب آخر على المنبر فندمت ندما شديدا وقلت في نفسي لماذا يغيرون الإمام فإذا بالثاني أفضل من الأول وإذا بالمضمون يضاهي أو يفوق مضمون الخطبة الأولى ففهمت من ذلك بأن هناك عقلا يقف وراء كل ذلك : إنها فكرة تدوير الأئمة والخطباء في المساجد أي عدم وجود أئمة وخطباء ثابتين في مكان واحد دائما وأبدا وهي في الحقيقة فكرة عظيمة تجلب مصالح كثيرة وتدرأ مفاسد أكثر : فهي تمنع من تكوّن الخلايا النائمة والأفكار الهدامة وتسمح بتعميم الفائدة حيثما وجدت فإن كان الإمام جيدا استفاد منه أكبر جمهور ممكن وإن لم يكن كذلك أبدلهم الله خيرا منه ولو لفترة ولعل الشيء الأهم في هذه المسألة هو أنها تساهم في تجانس المعتقد في ظل فوضى الأفكار والمعتقدات وانتشار الملل والنحل و"خطر التشيع" والنزعات الأصولية المتطرفة...إلخ لماذا تكون لدينا مساجد لا يخطب فيها إلا السلفيون وأخرى لا يرفع فيها صوته غير المتصوفة من هذا المشرب الروحي أو ذاك، وأخرى روادها ممن لا يحسنون قراءة الفاتحة ؟ لا شك أن تطبيق فكرة تدوير الأئمة والخطباء ستؤدي على الأقل إلى تقريب الشقة بين المشارب الطرقية المتعددة التي هي في الأصل ذات منبع واحد وترمي إلى هدف واحد هو التربية الروحية وطهارة النفس : فهذا الإمام أو الخطيب "القادري" سيجد في المرة المقبلة جمهورا من "التجانيين" ليتحاور معهم وليسمع منهم ويسمعوا منه والعكس أيضا صحيح، وهذا الإمام أو الخطيب المالكي قد يجد أمامه جمهورا ممن تجتذبه أفكار السلفيين أو الإخوان ليسمع منهم ويسمعوا منه والعكس أيضا صحيح ... وإلا فسنقع دوما فيما نحن واقعون فيه في الكثير من المجالات : إعادة الإنتاج . 
 هناك فائدة أخرى لتدوير الأئمة والخطباء هي التحكم في مضامين الخطب فلا معنى أن تكون الدولة مسلمة من الناحية الدستورية والواقعية فيها علماء من طراز عالمي ولا يلتزم بعض الفقهاء والأئمة بتعاليمها ويخرجون على الإجماع المنعقد فيها لتأويل أو منزع شخصي صحيحا كان أم خاطئا ؟!
 طبعا هناك عائق هو أن بعض الجهات وبعض المنظمات الأجنبية وحتى بعض القبائل والعشائر والأسر هي التي تتكفل ببناء المساجد على نفقتها ومجرد بنائها لها يمنحها تلقائيا الحق المطلق في تحديد من يؤم فيها ومن يخطب وفي تحديد مضامين الخطب وطبيعة العقائد والمذاهب والتعاليم التي تلقى فيها بل وأنواع الطبخ الذي يطبخ فيها و طرق التدريب الخاصة المتبعة فيها حتى بات هناك اختلاف واضح في طريقة الانضباط ونمط التدريبات المتبعة في كل منها مع أن الجميع يقرأون الآية الكريمة ﴿وأن المساجد لله﴾ الآية. 
 المساجد لا تملك ولا تورث لأنها بيوت الله تبنى وتسلم لمن بيده مقاليد أمور المسلمين كما أن العلم بدوره لا يورث ولا يورّث لأنه ملك لعامة المسلمين ولا مجال هنا كما هي العادة عندنا لاحتكار المخطوطات وتراث العلماء وجعله ملكية خاصة متوارثة بل قد يصل الأمر إلى الاعتراض على أي نشاط علمي حول أي علم من الأعلام دون موافقة أبنائه وقبيلته وطريقته الصوفية التي يجب أن تشرف بنفسها على ذلك النشاط وغالبا ما يكون مقصورا على جمهور معين دون غيره... لا بد من تحرير الدين من وصاية الجماعات ذات الأجندات الخاصة ومن هيمنة الشرائح الاجتماعية والعشائر والأفراد وجعله خالصا لله ورحمة للعالمين. الدولة في الإسلام التي هي بالأساس دولة مدنية لا تقبل انفصال الشؤون الدينية وتحويل المسجد إلى مؤسسة مستقلة وسلطة دينية موازية تنازع الدولة في سلطتها. القطيعة مع الدولة الدينية ومأْسسة الكنيسة حدثت كذلك في سياق الدولة الحديثة منذ القرن السابع عشر وأصبحت فيها السيادة واحدة لا تقبل التجزأة.
 بالطبع فإن هذا المقترح يفرض عبئا اقتصاديا إضافيا على الدولة لكنه ليس شيئا مقارنة بالفائدة التي تترتب عليه والضرر الذي قد يسببه التسيب في مجال شديد الحساسية مثل الشعور الديني لا بد من تخصيص رواتب ومخصصات مالية ثابتة لـ "جميع" الأئمة والخطباء بعد تكوينهم خصيصا لهذا الغرض في الأقسام العلمية المتخصصة بالجامعات والمعاهد العليا ولا بد أن يخضعوا لدورات منتظمة من حين لآخر حول موافقة التعاليم التي يقدمونها للخيارات الثقافية والروحية للبلد ولثقافة السلم وروح التسامح نفس السياسة لا بد من اتباعها في التعليم الخاص في مختلف المراحل وخصوصا في مؤسسات التعليم العالي الخاصة.
 إن إنفاق ميزانية قليلة قد لا تزيد على مليار واحد في سياسة هي بالأساس سياسة اجتماعية أفضل من دفع المليارات في الأمن ومحاربة الإرهاب : إن لم ندفع المليار أو المليارين الآن سنضطر إلى دفع أضعافهما آجلا لكن بعد فوات الأوان.
 الفكرة الثانية تتعلق بالسياسات الزراعية واستخدام المصريين لمصادرهم المائية المتمثلة أساسا في نهر النيل. لا أعتقد أن هناك شعبا في العالم استفاد من النهر أكثر من الشعب المصري من لا يعرف جغرافية ذلك البلد يظن في كل مرة يأخذ فيها إحدى الطرق الزراعية أن النيل يمر من هناك لكن الأمر ليس كذلك إنها القنوات المائية التي تشكل روافد صناعية ممتدة لعشرات الكليمترات في أعماق الصحراء لأغراض زراعية منها تتفرع "الترع" التي تسقي المساحات الزراعية في كل مكان والنتيجة : اكتفاء ذاتي كامل في المنتجات الزراعية والخضروات والأعلاف والألبان والسكر الذي يستخرج هناك من نبتة بسيطة مثل البطاطس تسمى "البنجر" تزرع على النيل وهي أقل تكلفة بكثير من زراعة قصب السكر. هذا البلد لا يمكن أن يتأثر لو فرض عليه حصار لمائة عام هناك لا يمكن أن يموت أحد من الجوع رغم أن سكانه في أفق المائة مليون نسمة ! المصري قد يموت من أي شيء سوى الجوع . فمتى نحقق نحن اكتفاءنا الذاتي في مجال الغذاء وماذا نفعل لو منع جيراننا عنا القوت وهو ما قد يحدث في أي وقت ولأي سبب مهما كان.
 وفي تقديرنا أن الحاجة إلى تطبيق الفكرة الثانية ليست أقل من الحاجة إلى تطبيق الفكرة الأولى لأن الفكرتين تتعلقان في نهاية الأمر بموضوع واحد هو الأمن في أبعاده الثقافية والغذائية ولهما هدف مشترك ذلك أن الأمن الغذائي يعد في بعض البلدان مثل بلدنا أكثر أهمية من الأمن بما هو كذلك هذا بالإضافة إلى متلازمة العقول والأبدان فسلامة العقول تتوقف على سلامة الأبدان لأن هذه الأخيرة تحتاج قبل كل شيء إلى غذاء سليم لكي تعمل الأولى بشكل صحيح : فالعقل السليم في الجسم السليم.
 وكنا قد أشرنا في مناسبات سابقة إلى الفائدة المزدوجة للثورة الزراعية في موريتانيا وخصوصا في مجال الزراعة المطرية والسدود والواحات والمسطحات المائية : إنها عدالة وإنصاف لشريحة عريضة من المواطنين تعرض أفرادها للظلم في الماضي ولا تزال حتى الآن رواسبه وآثاره عائقا كبيرا يمنعهم من الالتحاق بالركب، وهي تحقيق لبعد مهم من أبعاد الأمن لهذا البلد وضمان لسيادته واستقلاله فلا استقلال لشعب يأكل من وراء حدوده.

بقلم د البكاي ولد عبد المالك 

تصفح أيضا...