مات الضمير!تدونة بقلم / محمد فال ولد بلال | البشام الإخباري

  

   

مات الضمير!تدونة بقلم / محمد فال ولد بلال

بطبيعتي لا أحبّ المطوِّلات وذاكـ النّوع،،، ومع ذلكـ أطلب منكم 4 دقائق لقراءة قصة "أحمد" وزوجته "أم خالد"؛ أنقلها لكم من حكايات عبد الله ناصر، مع خالص الشكر والامتنان.
دخل أحمدُ بيتَه وهو يُنادي بأعلى صوته ! يتغنّى فرحاً، ويقفزُ مرحاً، فاستيقظت زوجته من قيلولتها، وأقبلت تسعى إليه وتقول ما الأمر؟! قال إنه شيء عظيم، شرف كبير، لا يدانيه شرف. انظري يا أم خالد، وأخرَجَ من تحت إبطه غلافا ضخماً، وقال : هذا! قالت : وما هذا ؟ قال : إنه الشرف، الرفعة، التاريخ ! فازدادت حيرةًٓ واستعجلته لاستجلاء الأمر. فقال : لا تستعجلي، فهذا الذي أحمله يحتاج إلى هدوء و تَؤُدَة ؛ إنه المجد والفخار ورأس المال. وبعد إلحاح منها أخرج الغلاف، وفتح غطاءه برفق، ثم أخرج منه ورقة كرتونية (carton) مطوية فقفزت صارخة، وهي تحسب أن الورقة شيكـ مصرفي (chéque de banque )، أو سند عقاري (titre foncier)، أو وثيقة تملّكـ (titre de proprieté)، أو شيء من ذلكـ، و قالت في لهفة: أرنيها، أرنيها !؟ فلما تمعّنت فيها ورأت عليها كثيراً من الألوان، استغربت وقالت : ما هذا ؟ قال: شهادة (attestation) ! قالت : شهادة ماذا ؟ قال : لقد أُحلت إلى التقاعد وسلّموا لي هذه الشهادة، وهي شهادة أعتزُّ بها مدى الدهر. إنها شهادة تزكية، وشكر وتقدير (attestation de reconnaissance et de mérite) ومعها وسام وشارة (écharpe et symbole de fonction) ألبسها في المناسبات الرسمية ؛ فصاحت : ألهذا أيقظتني يا أحمق ؟ ومتى كانت هذه الشهادات والأوسمة تُسمن أو تُغني من جوع ؟! إنني مستعدة أن أعطيك من الأوراق ما تنوء به كتفكـ . أتدري أين أفضل مكان لورقكـ هذا ؟! إنه بطون الأغنام ! الشرف الحقيقي أيها المتعوه هو المــال (l'argent)... لو كنت ذكياً حاذقاً وفطنا لاسْتَغَلّيْتَ منصبكـ الذي قضيت فيه جل عمركـ، فَنَهَبْتَ ونَهَشْتَ وهَبَشْتَ كما ينهشُ غيركـ، لو فعلت ذلك لكنت رجلاً نافعاً لكـ ولأهلكـ وذويكـ، لكنتَ في نظر الكثير من الناس رجلاً فاضلاً وكاملاً من العيوب، بل فوق ذلكـ كنت إنساناً نادراً ومبدعاً أي لأصبحت زعيما وشاعراً وكاتبا ورساماً وربما ملحناً، أيضاً ! بل لحُسِبْتَ وطنياً مخلصاً وبطلا ومقاوماً وإبنا بارّا لوطنه وأهله كهؤلاء الذين نسمعُ عنهم كل يوم ؛ لكنكـ كنت جباناً تدورُ كما تدورُ الشاة في رباطها، ولم تفعل كما فعل غيركـ من النّهابين "الوكّالين" الأشاوس، فما الذي كان سيضركـ لو فعلت ؟! 
إنهم لن يقتلوكـ ولن يجدعوا أنفكـ، وأقصى ما يمكنهم فعله هو إقالتكـ أو فصلكـ من عملكـ ؛ حينها تكون قد أصبحت من رجال البنوكـ والمقاولات وأصحاب الأسهم والعقار والشركات الكبار. نعم لو كنت "وكّالا" ونهاباً ثرياً «يا أحمق» لكان وجهكـ براقاً جميلاً مشرقاً دائم الابتسامة وليس عبوساً قمطريراً.. ثم جرّته إلى المرآة وقالت له انظر إلى وجهكـ المتعب أيها التقي النقي الأمين، يا صاحب الأوسمة والنياشين ..! قال في ذلة وانكسار: صحيح - يا أم خالد - إن وجهي متعَبٌ فعلا، و صوتي أبح، وإن حالتي رثة لا تسرُّ الصديق ؛ ولكنّ ضميري - يا عزيزتي - مشرقٌ مضيء، لا شيء يخفيه أو يطفيه... ضميري مرتــاحٌ، نقي كقطعة الثلج وصافٍ كقطرة الندى، ألا يكفي أنني أنامُ قرير العين، فارغ القلب من الهم ؟ ألا يكفي أنني لم أطعمكم حراماً، ولم أُدخل في بطونكم ناراً ؟! صكّت وجهها وصاحت : كفانا هراءً «ضمير نقي، وقلب نقي» هذا كلامٌ فارغٌ لا يملأ بطناً، ولا يورث نفعاً. انظر إلى بيتنا هل فيه حُبُوب ضمير، أو خبزُ ضمير، أو سريرُ ضمير؟ هل فيه أكياس ضمير أو ذهب ضمير؟ 
يا رجل، الضّميرُ ماتَ وأعطاكـ عمره من سنين وتجده اليوم مع أهل القبور في قبورهم ؛ و نحن نعيش بين الأحياء، نريدُ حياة سعيدة، لا حياة ضمائر وشهادات وإفادات ونياشين، فهذه خردة لا تساوي شيئاً في عالم الماديات والثراء والاستهلاكـ ! راح أحمد يقلب نظره في الشهادة و النيشان ثم في وجه زوجته المرهق، و هو لا يدري ما يقول و لا يدري ما يصدق، و ضاق بنفسه و بكل شيء حوله، فقرر في الأخير أن يبكي لحال وطنه...